أخيرا، حصل ما لم يكن يتوقعه أحد؛ فقد أعلنت المملكة العربية السعودية، وعلى لسان أكبر شخصية فيها وهو الأمير محمد بن سلمان، أن المملكة نشرت الوهابية خلال فترة الحرب الباردة بطلب من الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد شكل هذا التصريح مفاجأة كبرى للكثيرين داخل السعودية وخارجها، وصدمة كبرى للسلفيين، بدليل أن الجميع سكت ولم يعلق عليه. وسبب هذه الصدمة هو أن الكثير من السلفيين سيصبحون منذ اليوم بدون "ولي"، وسيفقدون المظلة السعودية التي كانت تحميهم وتوفر لهم التمويل والدعم طوال عقود من الزمن. وإذا أردنا تلخيص الأمر في كلمات موجزة يمكننا القول: إن عقبات الإصلاح الديني في العالم العربي سوف تزول بنسبة كبيرة بمجرد صدور قرار مثل هذا. مثل هذا التصريح لم يكن منتظرا، لكن التراجع السعودي عن الدعم الرسمي للوهابية كان متوقعا منذ سنوات عدة؛ فقد بدأت البدايات الأولى بعد تفجيرات الحادي عشر من شتنبر 2001، ثم تزايدت المؤشرات بعد ظهور تنظيم "داعش". فعلى الرغم من أن تنظيم القاعدة نشأ في رحم الوهابية، فإن الربط بينه وبينها لم يحصل؛ لأن تنظيم القاعدة لم يؤسس "دولة" يمكن من خلالها معرفة شكل الحكم لديه، كما أنه اعتبر نوعا من المروق عن الوهابية. وهذا عكس ما حصل بالنسبة إلى تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام". ذلك أن هذا الأخير أنشأ "دولة" في أجزاء من العراق وسوريا، وشرع في تطبيق الشريعة باعتبارها دين "الدولة" الجديدة، وهو ما جعل الكثيرين في الغرب يربطون بينه وبين تجربة الدولة السعودية كدولة ونظام، ومن ثمة اعتُبر تنظيم داعش امتدادا للوهابية، وإن كان في حقيقة الأمر "محاولة تصحيحية" للوهابية من داخلها (انظر كتابنا: وكانوا شيعا، دراسات في التنظيمات الجهادية المعاصرة 2017). أدى ذلك إلى هجوم غير مسبوق على الوهابية والدولة السعودية في الغرب، ولم يعد انتقاد النموذج الديني للسعودية يتم داخل صالونات السياسيين والدوائر الحكومية، بل خرج إلى العلن وأصبح كبار المسؤولين السياسيين الأوروبيين والأمريكيين يجهرون بتلك الانتقادات. وفي السنة الماضية، صدر في فرنسا أول كتاب من نوعه عن الانتشار الوهابية في العالم، عنوانه "الدكتور سعود والسيد جهاد" لمؤلفه بيير كونيصا، كشف فيه بالأرقام والحقائق حجم الانتشار الوهابي في أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا. وقد أعرب المؤلف في مقدمة الكتاب عن مخاوفه من تعرض كتابه للمصادرة، وهذا دليل على أن المثقفين الأوروبيين يدركون حجم النفوذ السعودي في أوروبا. بيد أن الكتاب لم يصادر، وتلك إشارة إلى أن الحكومات الأوروبية لم تعد تعامل النموذج الديني للسعودية بالأفضلية نفسها التي كانت له في الماضي. وقد كتب Alastair Crooke، وهو مستشار أمني سابق لخافيير سولانا الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، مقالا تحت عنوان"Vous ne pouvez pas comprendre l'État islamique sans connaître l'histoire du Wahhabisme en Arabie saoudite"، خلص فيه إلى أن داعش هي الابن الشرعي للوهابية. ومثل هذا الاستنتاج نجده منتشرا في المئات من المقالات والدراسات التي كتبت في الفترات الأخيرة حول تنظيم داعش. ولن نشغل أنفسنا بالتداعيات والخلفيات في هذا المقال، إذ ما يهمنا أساسا هو مدى قدرة المغرب على الإفادة من تراجع النموذج الوهابي في الخارج، خصوصا في أوروبا، وتسويق نموذجه في التدين. ولفهم هذا الأمر، لا بد من الوقوف لدى التباينات بين النموذجين. خلافا للنموذج السعودي الوهابي، الذي يعد نموذجا مغلقا ولد داخل شبه الجزيرة العربية في إطار مجتمع البداوة وخشونتها، أو في وسط "أعرابي"، فإن النموذج المغربي نشأ في مجتمع حضري تمثل في المجتمع الأندلسي، وتطور عبر التاريخ في إطار التعدد والانفتاح على الآخر ومن خلال الاحتكاك المستمر مع أوروبا، وتعايش مع مختلف المذاهب والملل والنحل في الغرب الإسلامي، واستمر في هذا السلوك المتعايش بالرغم من الصعوبات؛ على العكس من النموذج السلفي الوهابي الذي نشأ رافضا للتيارات الأخرى، وبنى هويته الدينية والعقدية على الحرب ضد الملل والنحل المخالفة. إن الطبيعة والعامل الجغرافي، الذي يرتبط بالموقع ونوعية الجوار، يشكلان عناصر مفيدة في دراسة النماذج الدينية والمقارنة بينها. فالسلفية الوهابية ولدت في مجتمع صحراوي منغلق، طابعه الأساسي التناحر بين القبائل، ولذلك كان من الطبيعي أن يتميز بمميزات هذا المجتمع، وأن يتأثر بثقافة الصراع القبلي، وأن يحدد وظيفته في إقصاء الآخرين، لأن أساس التعايش في المجتمع القبلي هو توازن القوة، وليس الإيمان بالحق في الاختلاف، الذي أكده الإسلام. إضافة إلى عاملي الطبيعة والموقع، هناك عامل مهم جدا في نظرنا يرتبط بالشروط الموضوعية، ونعني بذلك الوضعية الاقتصادية والسياسية؛ فالنموذج السعودي انتشر بفضل إغداق الأموال وشراء المواقف والدعم السخي وسياسة "بيت المال المفتوح"، وليس لجاذبية ذاتية كامنة فيه. وقد مهد المالُ الطريقَ سريعا أمام هذا النموذج، ولذلك ظل بقاؤه واستمراره رهنا بعنصر المال، لا بأي قوة موجودة فيه، أو قناعة راسخة لدى من خدموه ودعوا إليه. فهو نموذج لم يفرض نفسه بناء على الصراع والتدافع والاحتكاك مع نماذج أخرى، وإنما يمكننا وصفه بأنه كان "الابن المدلل" الذي لا يرضى بالمزاحمة. بينما نجد أن النموذج المغربي تطور في إطار الصيرورة التاريخية، بشكل طبيعي، وخضع لمختلف التقلبات التاريخية التي يمر بها أي فكر صقلته التجارب؛ ففي بعض الحقب التاريخية تعرض للهزائم، وفي أخرى حقق انتصارات، ففرض نفسه بناء على قدراته الذاتية وخصوصياته التي لقيت قبولا به، نظرا لأن المجتمعات البشرية تميل بالفطرة إلى إعلاء قيمة الاعتراف reconnaissance ، وهو ما يتيحه النموذج المغربي، الذي تعايش وعايش العديد من الأديان والمذاهب والتيارات المتباينة؛ ويكفي فقط العودة إلى الفترات اللاحقة على سقوط غرناطة لكي ندرك كيف أن النموذج المغربي ممثلا في المالكية والأشعرية قد احتضن مختلف العقائد والمذاهب التي قصدت إليه. ومن ناحية ثالثة، هناك في نظرنا اختلاف واضح ومهم بين النموذج المغربي والنموذج السعودي في التدين، وهو المرتبط بالسياسة الدينية في البلدين. فعلى عكس المملكة العربية السعودية، حيث يوجد تقاسم للسلطتين الزمنية والدينية بين النظام الحاكم والتيار الوهابي، ممثلا في هيئة كبار العلماء والعلماء المستقلين عن هذه الهيئة، لا يوجد في المغرب مثل هذا الانقسام بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، فالمؤسسة الملكية تعد في الوقت ذاته مؤسسة مدنية ودينية في الوقت نفسه، بحيث يعتبر الملك رئيسا للدولة (منصب السلطان في الماضي) وأميرا للمؤمنين. لقد أصبح النموذج المغربي يلقى اهتماما أكبر لدى البلدان الأوروبية والإفريقية في السنوات القليلة الماضية، ويحظى بتقدير وازن. ويعود هذا الاهتمام في جزء كبير منه إلى الخصوصيات التي تطبعه، والتي تحدثنا عنها آنفا، كما يعود إلى حافز موجود لدى الأوروبيين، وهو البحث عن نموذج مغاير للنموذج السعودي، الذي أصبحت تلصق به مختلف أشكال الاتهامات بالتطرف والتشدد. ويوما بعد آخر، يزداد الطلب على التجربة المغربية في تدبير الشأن الديني، سواء من لدن البلدان الأوروبية أو من لدن البلدان الإفريقية. ونحن نعتقد بأن تزايد مخاطر التطرف والعنف، وارتفاع المزيد من الأصوات التي تطالب بالحد من هذه الظواهر، ومعالجتها في أصولها ومنابعها الأولى، سوف يدفع النموذج المغربي بشكل تدريجي إلى الواجهة، فيما سيلعب دورا متزايدا في تهميش النموذج السعودي ورفضه. إن النموذج السعودي في أوروبا وفي غيرها لا يعتمد على مجموعة ديمغرافية سعودية منتشرة في الخارج؛ فظاهرة الهجرة ليست ظاهرة سعودية على كل حال، ولذلك من الصعب الحديث عن جنسية سعودية وسط أطلس الهجرة في العالم. لذا، فإن النموذج السعودي في التدين لا يعتمد على شريحة اجتماعية سعودية من المهاجرين، بل على الدعم المالي فقط. ويمكن القول بأن النموذج السعودي في التدين الذي ينتشر في أوساط المهاجرين يوجد في حالة تناقض مع الأصول الثقافية والخصوصيات الوطنية لفئات المهاجرين المختلفة؛ فالنموذج السعودي في الغرب وفي غيره ليس موجها إلى السعوديين، بل إلى الجنسيات الأخرى. وفي المقابل، يتوفر المغرب على كتلة مهاجرة كبيرة، ذات تجذر في المحيط الأوروبي حيث تقيم، وفي الوقت نفسه لديها ارتباط قوي ببلدها الأصلي. يظهر الحقائق أن المغرب وتركيا هما البلدان اللذان لديهما أوسع فئة مهاجرة في أوروبا، موزعين بين مختلف البلدان الأوروبية، وأن المغاربة ينتشرون أكثر في فرنسا، بينما ينتشر الأتراك أكثر في ألمانيا. ويقول الباحث Benjamin Bruce إنه، منذ بداية عام 2000، أصبح كل من المغرب وتركيا البلدين اللذين يحظيان باهتمام كبير في أوروبا كفاعلين رئيسيين في الحقل الديني، بل يتحدث الباحث عن "حقل إسلامي مغربي" و"حقل إسلامي تركي" في أوروبا. هذا يعني أن المنافسة في المرحلة المقبلة داخل "الإسلام الأوروبي" ستحصل بين هذين النموذجين فحسب. صحيح أن النموذج الإيراني يطرح تحديا واضحا، ولكن لا يجب نسيان أن النموذج الإيراني مرتبط بالتشيع، مقابل النمط السني الذي يمثله كل من تركيا والمغرب، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن النموذج الإيراني مرتبط بالطموح إلى الهيمنة السياسية وليس نموذجا خالصا للتدين. بيد أن قدرة المغرب على خوض المنافسة وتسويق نموذجه الديني تقف في وجهه عقبات كبرى. يتعين القول بأن المؤسسة الدينية في المغرب تعاني أزمات بنيوية، سواء على المستوى الهيكلي أو الفكري، ولذلك ليس من الممكن تأهيل النموذج الديني المغربي ليلعب دورا طلائعيا مع وجود المؤسسة الدينية نفسها التي تشتغل بأسلوب تقليدي وطالتها الأعراض المرضية التي طالت الحياة السياسية في المغرب، كالزبونية والانتهازية والثقافة الريعية وغياب الإنتاجية. ينبغي أن تكون لدينا الجرأة على نقد المؤسسة الدينية بكل مكوناتها، ودفعها إلى أن تؤدي الأدوار المناطة بها بعيدا عن الخطابية وأسلوب التبشير. لقد انتقد الملك محمد السادس، في العام الماضي، الطبقة السياسية وانتقد غياب المبادرة الوطنية لديها. وأعتقد أن المؤسسة الدينية لا تقل سوءا عن الساحة السياسية، وأن المطلوب منها أن تنهض بدور وطني حاسم، بل أن تشكل نموذجا للأطراف الأخرى من حيث فتح قنوات الحوار واستيعاب الطاقات الجديدة والانفتاح على منجزات الفكر العالمي المعاصر وخلق حراك فكري وثقافي في البلاد في مستوى حجم المغرب والأدوار المطلوبة منه.