أقدار لطيفة تلك التي دفعتني ذاك اليوم أن أُؤَدّي فريضة الصبح في مسجد معاذ بن جبل، واحد من المُصلّيات الصغيرة المنتشرة بمدينة مونتريال المعروفة بكون جُلّ روادها من الباكستانيين والبنغال. تأخر الإمام الرّاتب فالتفتَ إليَّ أحدهم وطلب منيِّ أن أتقدم للإمامة. سبق أن رفضت الطلب نفسه في المصلى ذاته، لكني قبلتُ هذه المرّة لأنني كنتُ في عجلة من أمري كما أنّي لستُ شغوفاً بلعب دور التَّقي الورع الذي ينأى بنفسه عن الرياء وحب الظهور...و...و... مستسلماً لذكريات جميلة، قرأت في الركعة الأولى آية الكرسي وزِدتُ قليلاً، وفي الثانية آية النور. خلال الصلاة سمعت نحيباً أو بالأحرى نحيبيْن... ربّاه لم أسمع بكاءً في الصلاة منذ مدّة، خاصة وأن الإمام مُتفلِّتة منه ناصية التجويد وصوته يكاد يخدش طبلة الأذن... بعد السلام، كنت أود أن أجول ببصري وأستنطق الأحداق باحثا عن أصحاب الدموع، حال الحياء بيني وبين رغبتي، فتيممتُ أحد الجدران حيث أسندت ظهري وشرعت أعبث بأناملي. الأصل والمفروض أنها أذكار وتسابيح، وإن سألتني فسأعترف بأنها طقوس أقوم بها والخُلد ساهٍ... استيقظت من سرحاني على شبه موعظة بالإنجليزية، وبدون أي مقدمات ذكّر فيها الواعظ الباكستاني بأن حب العرب واجب على الأقل لثلاثة أسباب، أولاً لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عربي وهذا وحده يكفي حسب الواعظ. ثانياً لأنّ العربية لغة القرآن، وثالتا لأنّ العربية كلام أهل الجنة. سبق لي أن سمعت أشياءً من هذا القبيل وكان جوابي أن أبا جهل كان عربيا، وأبا لهب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان عربيا، وأُغيلمةٌ من قريش كانوا هم أيضاً عرباً أقحاحاً أوْرثونا حكماً عضوضاً وما زلنا نكتوي بنار حماقاتهم. كما أن القرآن الكريم لم يذكر الأمازيغ ولا الأكراد إنما ذكر ''الأعراب'' بكونهم أشد كفرا ونفاقاً... كنت وما زلت أؤمن بما خطّتْ يميني، كنت وما زلت أظن أنني عربي بل والبعض من ''غُلاة'' العائلة يزعمون أننا من الأشراف... لكن ما استفزني في كلام الواعظ استرساله قائلا: ''ولقد رأيتم حينما سمعنا القرآن من أحد العرب، يعني عبد ربه، كيف تأثرنا وتخشّعنا...''. ثم أردف قائلا إن ذلك فضل من الله اصطفى به العرب،... لست أدري ماذا قال بعد ذلك لأني سرعان ما عدت إلى سرحاني قبل أن أغادر المصلى. وأنا في السيارة، خطرت ببالي مذكرة الجنرال الراحل نورمان شوارسكوف التي حملت عنوان ''الأمر لا يحتاج إلى بطل''. يحكي شوارسكوف أن أمه قالت له ذات يوم: اعلمْ أنك تمتاز بثلاث مزايا لا فضل ولا دخل لك فيها، أوّلاً أنت أمريكي، ثانياً أنت من العرق الأبيض، وثالثا أنت بروتستانتي. صدقتْ أم الجنرال وزوجة الجنرال، فكم من صفات نُقدَّر، وقد نُحتقر، بسببها وليس لنا أي دخل في تواجدها، ثم لسنا ندري هل فعلا تستحق القيمة التي مُنِحتْها خاصة إذا كانت هذه ''الميزة'' عرقا أو نسبا. إن الفتى من يقول ها أنذا ** ليس الفتى من يقول كان أبي. رحم الله أبا العتاهيه، لم يجد نفسه مستقراً بأوروبا وأمريكا بُعيد أحداث 11 سبتمبر… حينها كان سيدرك أن الفتى ليس فقط ''ها أنذا'' لكن الفتى أيضاً سُحنته ولَكْنته ودينه... صحيح أنه لا يتعين على المرء أن يكون موسوعيّاً ولا مُنظّراً كي يرصد مكامن الضعف والهوان والغثائية والتخلف والعبث في تلكم الرقعة المسماة وطنا عربياً. ولا يحتاج أن يكون من طينة سيجموند فرويد حتّى يُشخِّص الأمراض والاضطرابات والتشوهات النفسية التي تتلبَّسنا كرَعايا أو رعيّة. لذلك حين تجد نفسك محل تقدير لمجرد أنك عربي، فالأمر يبدو عكس ''صيرورة'' الأشياء. ولكَ أن تزفر بعصبية ولسان الحال يقول، تبا لك طول اليوم، ألهذا ''اسْتقرأتنا''؟ انظر إلى ''إخوتك'' العرب يدمرون اليمن ويبيعون القدس ويتناطحون على ''المقعد الأمامي'' في سوريا )والعبارة للدبلوماسي حمد بن جاسم) ويؤدون الجزية إلى ترامب ويمزقون الوطن في السودان ويعبثون بليبيا ويغرقون مصر وفي المغرب يوزعون بسخاء عشرات السنين من السجن على أحرار الوطن وعشرات الملايين على مهرجان يكرِّس تَخلخلَ ''الموازين''... ثم تجرؤ وتتكلم عن العرب وحب العرب... قسماً لست أنا... إنما هو المصلي ''الأعجمي'' كان يعظ بني قومه لأنه ربما أحس بشيء حينما صلى خلف أحد العرب. للإشارة فنحن نطلق كلمة ''العجماء'' كذلك على البهيمة. نقيصة أخرى نتزياّ بها، عصبية وشوفينية تتحين الفرص كي تتمظهر في أبشع صورها. والغريب أن الباكستانيين والبنغال هم أكثر من يصطلون بلهيب العنصرية الأعرابية. شئنا أم أبينا فنحن عرب، وشئنا أم أبينا فالمسلمون غير العرب ينظرون إلينا كأحفاد الصحابة ويتناسون أو لعلهم يجهلون قصة ذوات الرايات الحمر، وشئنا أم أبينا فالمسؤولية جسيمة خاصة في بلاد الإفرنج. ولكن هل فعلا نحن الأسوأ من بين كلِّ عباد الله؟ وهل حقّاً حالتنا ميؤوس منها؟ تشاكسك هذه الأسئلة وأخواتها في بعض المناسبات وتزيد من مداهماتها حين يقدّر عليك الاغتراب ويسيطر عليك أحيانا وأنت تقارن… قال السماء كئيبة وتجهما ** قلتُ ابتسم يكفي التجهم في السما. رحم الله إيليا أبو ماضي ... عكس ما درسونا ونحن صغارا، اكتشفت بعد ذلك أنه كان متشائما... فما قصة ''كن بلسما إن كان غيرك أرقما ... وحلاوة إن صار الدهر علقما''، هل سمع يومها واعظاً أعجمياً يدعو إلى حب العرب فانتعشتْ معنوياته...؟ ''لست أدري ...''. ''أن تكون عربيا في أيامنا''، كتاب من تأليف عزمي بشارة، يتطرق فيه إلى القومية العروبية، الديمقراطية العربية، المتغيرات الدولية ثم القضية الفلسطينية... بوركت دكتور بشارة، لكن كتابك لم يشف غليلي. هلّا كتاب ''أن تكون عربيا في بلاد العجم''، َلرُبما أجاب وأرشد وهدّأ من قلق الملايين... كتاب لست أريده يُنطِقُني: ورثنا المجد قد علمت معدٌ** نطاعن دونه حتى يبينَا حسبيَ منه: ومن لا يحب صعود الجبال**يعش أبد الدهر بين الحفر في انتظار هذا الكتاب، سأقتصر على الصلاة بين الفينة والأخرى في مسجد معاذ بن جبل، سأجلس بجانب أناس يتعبدون الله بحبي وسأعتز ولو مؤقتا بعروبتي…