أثار إدخال كلمات باللهجة العامية أو الدارجة في الكتاب المدرسي للسنة الثانية من الطور الابتدائي، خلال الموسم الدراسي الجديد، موجة من ردود الفعل لدى المواطنين وفي أوساط رجال التعليم، بين مرحب بذلك ومستنكر له. ففيما اعتبر المعسكر الأول أن استعمال الدارجة في التعليم الأولي تعزيز للعملية التعليمية ومساعدة للطفل على الاستيعاب، بوصف الدارجة أقرب إليه من غيرها، وبالتالي يمكن أن تصلح قناة سهلة لنقل المعلومات إلى التلميذ بأقل كلفة، رأى المعسكر الثاني أن إدخال الدارجة اعتداء على حرمة اللغة العربية واستهداف للدستور الذي يعتبر العربية، وبجانبها الأمازيغية، لغة رسمية للدولة. ولكن النقاش حول استعمال الدارجة في المغرب ليس جديدا. فقد بدأت هذه الموجة قبل عقدين على الأقل، عندما بدأت تصدر بعض المطبوعات الصحافية بالعامية، ثم زحفت العامية على بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية، ثم أصبحت اليوم اللغة الوحيدة تقريبا في اللوحات والإعلانات الإشهارية، إلى جانب الفرنسية. وعادة ينطلق الجدل والنقاش حول توظيف الدارجة في بعض المجالات الحيوية ثم يخفت بعد ذلك، وتصبح الدارجة في هذه الحالات مكسبا ما يفتأ المواطن يتعايش معه. ولعل هذا هو المقصود اليوم من إدخال بضع كلمات في مقرر مدرسي؛ إذ الهدف هو خلق حالة من التطبيع مع الدارجة في التعليم بشكل تدريجي لكي تصبح بعد ذلك مكسبا. وقد بدأت العملية بثماني كلمات كدفعة أولية، على أن يتم توسيع هذا الوعاء تدريجيا في السنوات المقبلة بعد أن يتحقق التعايش معها لدى المتعلمين. وينطلق هذا المشروع من العامل السيكولوجي الذي يرمي إلى إسقاط مبدأ الرفض في حد ذاته، حتى إذا تحقق الهدف صارت القضية مجرد إضافة عدد آخر من الكلمات، طالما أن الرفض المبدئي ارتفع. يشكل التعليم سلاحا استراتيجيا في أي مجتمع، فهو حامل التاريخ الجماعي وأداة ربط بين الأجيال التي تشكل الأمة في استمراريتها، ومؤسسة لإعادة إنتاج شبكة القيم الجماعية، إذا استعرنا تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في حديثه عن المدرسة. ولأن التعليم لديه كل تلك الأهمية، فقد صُوبت إليه بنادق الاستعمار منذ بداية وضع المخططات الاستعمارية في العالم العربي، لأن العبث بالتعليم يقود إلى العبث بشبكة القيم الجماعية في الدولة. وليس صدفة أو ترفا أن رواد الإصلاح في العالم العربي في بداية القرن الماضي وضعوا كل ثقلهم في التعليم بوصفه بوابة إلى المستقبل، أو نافذة نحو الانهيار. ولعل من المفارقات أن كلمة الإصلاح ارتبطت بالتعليم في الخطاب الاستعماري، بينما تعني معنى آخر وهو التدمير. فقد بدأ المشروع الاستعماري تحت عنوان الإصلاح للترويج لنفسه وتقليص مساحة المقاومة. وهكذا كان الإصلاح الجبائي يهدف إلى تعزيز تدخل القوى الأجنبية في سياسة الدولة الاقتصادية، والإصلاح المالي أداة لخنق الدولة بالديون، والإصلاح السياسي وسيلة لفرض شروط القوى الاستعمارية. وكان مفهوم "إصلاح المخزن" بداية التدخل الفرنسي في مؤسسة السلطان. وأول ما قام به نابليون في مصر بعد غزوها هو رفع شعار إصلاح الأزهر، كما كان أول ما فعله ليوطي في المغرب هو "إصلاح" القرويين، وتلك هي "الإصلاحات" التي هدمت صرح التعليم وسحبته من يد المجتمع ووضعته في يد المحتل. إن كلمة الإصلاح في القاموس الاستعماري تنتمي إلى قائمة العبارات السوداء. ومنذ بدأت الحرب على التعليم في العالم العربي بدأ تداول الحديث عن إدخال الدارجة في العملية التعليمية. وقد انطلقت تلك الدعوة من لبنان، حيث ثقل الطائفة المسيحية، مع إنشاء "الكلية السورية البروتستانتية" التي تسمى اليوم الجامعة الأمريكية، والتي أنشأها مبشر أمريكي في نهاية القرن التاسع عشر. وفي لبنان ظهر رواد العامية الأوائل في العام العربي أمثال يعقوب رفائيل صنوع، وهو يهودي لبناني، الذي روج للعامية في مقالاته وصحفه في نهاية القرن التاسع عشر، والشاعر العامي سعيد عقل، وهو مسيحي كان شديد التعصب للعامية. ثم انتقلت تلك الموجة إلى مصر مع دعاة ما سمي وقتها بالفرعونية الجديدة، وكان أبرز ممثليها توفيق الحكيم الذي صاغ مفهوم "اللغة الثالثة" في مسرحياته، لتكون مزيجا من العامية والفصحى. وكان جورجي زيدان، وهو لبناني مسيحي وكاتب معروف، أحد من تصدوا للهجوم على العربية لكن تحت ستار البحث العلمي. فقد انتهى في كتابه المعروف "تاريخ آداب العرب" إلى إفراغ اللغة العربية من كل محتوى، وزعم أنها خليط من المفردات القادمة من الحبشية أو العبرانية أو الفارسية أو الهندية، وقال في كتابه ذاك: "فإذا رأينا لفظا في العربية ولم نر له شبيها في العبرانية أو السريانية أو الحبشية، ترجح عندنا أنه دخيل فيها"، هكذا، وكأن العرب كانوا مجرد رحل القاسم المشترك بينهم البكم، كلما سمعوا كلمة من غيرهم أخذوها. ولم يكن مستغربا، والحالة هاته، أن تترافق تلك الموجة مع الدعوة إلى كتابة الحروف العربية باللاتينية. وقد تزعم هذه الدعوة المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسينيون، وتبعه في ذلك العديد من المثقفين العرب، خاصة في مصر، مثل أحمد لطفي السيد وقاسم أمين. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن مصطفى كمال أتاتورك عندما تولى حكم تركيا في العشرينات وأحل الحروف اللاتينية محل الحروف العربية في كتابة اللغة التركية، كان في العمق يضرب الامتداد التركي العربي، ويستجيب لطموح أوروبا في فصل تركيا عن العالم العربي. ومن المفيد التساؤل عن الهدف الاستراتيجي من الدعوة إلى العامية منذ تلك الحقبة. إن الأوروبيين يعرفون أن العامية ليست لغة قائمة الذات، وليست لها قواعد نحوية أو صرفية تضمن لها البقاء والاستمرار وتجعلها وسيطا لنقل المعرفة العلمية، بسبب فقرها واستعدادها الطبيعي للتغير والتحول، وافتقارها إلى معجم موحد، وغير ذلك من العوامل. من ثم، فإن الهدف من الدعوة إلى العامية كان هو الوصول إلى اللغات اللاتينية بشكل تدريجي، كحاجة ضرورية لمسايرة تطورات العصر. لقد كان المهم أن تسقط العربية الفصحى مثل التفاحة الفاسدة، وبعد ذلك يمكن أن تزرع مكانها أي لغة أخرى. بعبارة أوضح، ما يهم في الدعوة إلى العامية أنها ليست دفاعا عليها من حيث المبدأ، ولكنها فقط وسيلة أي الدعوة إلى القضاء على العربية. لهذا السبب كما أشرنا ارتبطت الدعوة إلى العامية بالدعوة إلى الكتابة باللاتينية. من هنا، فإن المطالبة بالتدريس باستعمال الدارجة في المغرب تندرج ضمن استراتيجية أوسع، ذات طابع سياسي حضاري يرمي إلى ضرب المقومات الأساسية للأمة المغربية. ولكن هذا التوجه في التحليل قد لا يروق للبعض ممن ألف عبارة "عقلية المؤامرة". ولكي ننزل النقاش من التاريخ إلى الواقع العملي، فإن الدارجة في المغرب لا يمكن أن تكون "لغة" للتدريس للأسباب المعروفة، أنها تفتقر إلى معجم مستقر ولا تتوفر على قواعد منضبطة يمكن الجريان عليها وليست لديها قابلية للارتفاع إلى مستوى الأداء المعرفي. فإذا كنا نشكو من تأخر العربية الفصحى وعدم قدرتها على مسايرة لغات العصر، خاصة في الجانب التقني، ومن التخبط والعشوائية في نقل أو ترجمة المصطلحات الجديدة على غير قواعد متعارف عليها، فكيف يكون الحال مع الدارجة؟ علاوة على هذا، فإن الدارجة في المغرب ليست موحدة في الشمال والجنوب والغرب والشرق، فلكل جهة لهجتها المحلية التي لا تفهمها الجهة الأخرى، وتوجد مئات الكلمات والعبارات التي لا أصل عربيا لها، بل هي كلمات وافدة من الفرنسية أو الإسبانية؛ هذا على المستوى الأفقي. أما على المستوى العمودي، فإن الدارجة تتغير تقريبا كل عشر سنوات، فتدخلها عبارات جديدة بناء على الوظائف الاجتماعية المتجددة. وعلى سبيل المثال، فإن جيل اليوم غير قادر على فهم الآلاف من الكلمات الواردة في قصائد الملحون، لأنها كلمات تنتمي إلى معجم لهَجي صار مهجورا اليوم. ولنأخذ واحدة من المجموعات الغنائية كناس الغيوان؛ إذ نلاحظ اليوم أن أبناء الجيل الحالي لا يفهمون على الإطلاق الكثير من العبارات وشبكة المعاني والتصورات التي تعكسها تلك العبارات التي كانت في يوم من الأيام دارجة الجيل الماضي. ولن نشغل أنفسنا في هذا المقال القصير بالحديث عن العلاقة بين التعليم بالدارجة وبين الرصيد اللغوي التاريخي للأمة، وانعكاس سريان الدارجة في التعليم على الارتباط بين الأجيال، وخطورتها على القطيعة المعرفية والثقافية بين الأجيال المستقبلية وبين التراث العربي، فتلك قضايا أخطر قد نفسح لها مكانا آخر.