2/2 سبق وأن حررت مقالا، نُشر على موقع هسبرس، ويحمل نفس العنوان، يحوي ومضات مشرقة، وإشارات لافتة، تفيد بأن 14 غشت 79م ، وهو تاريخ البيعة من لدن وجهاء وكبراء إقليم واد الذهب، لم تكن مجرد صدفة، بل كانت وحيا من عند الله تعالى، وقد خلف ذلك كثيرا من اللغط، وجر عليّ سيلا من الانتقادات، لارتباط فكرة الوحي عند البعض، بالأنبياء والمرسلين دون غيرهم. صحيح أن أغلب ما وردت كلمة "أوحينا" ومشتقاتها في القرآن كانت مقترنة بالأنبياء، وأحيانا بالملائكة، إلا أن خرق القاعدة أحيانا، يبعث إشارات منيرة وجب أن يلتقطها الحصيف، ويتوقف عندها اللبيب، من قبيل وحي الله تعالى إلى أم موسى كي تضعه بعد ولادته في التابوت، ثم تطرحه في النيل، ليلقيه النيل على الساحل، فيلتقطه فرعون، فقد جاء في سورة طه آية 38: "إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى". وقد جاء في تفسير الجلالين وغيره، بأن الوحي قد يكون مناما أو إلهاما، هذا الإلهام الذي بُعث أيضا إلى حواريي موسى، فكان مرشدَهم ودليلَهم إلى واحة الإيمان، حيث قال تعالى: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي." سورة المائدة آية 111. وقد يشمل الوحي أصنافا من الكائنات الحية، إن لم أقل كل الأصناف بدون استثناء، حيث عن طريقه تتناسل الحيتان في البحر، وبواسطته يبني النمل بيته بهندسة فائقة الإتقان، وتعرف الطيور المهاجرة مسارها عبر عشرات الآلاف من الأميال، وقد جاء في سورة النحل آية 68: " وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ." وقد يتعدى الوحي الكائنات الحية إلى الجمادات، حيث يقول تعالى: " ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" سورة فصلت الآية 11. ومن الجلي أن القول هنا في هذه الآية الكريمة غير القول المألوف، بل هو نوع من أنوع الوحي المعتبر. وهذا يجرنا إلى طرق الإشكالية التي ظلت عالقة لقرون، عند دارسي علوم القرآن، حول الرسم العثماني، أهو توقيفي أم أنه توفيقي؟ بمعنى، هل هو وحي منزل من عند الله تعالى على رسوله الكريم، وبالتالي فهو توقيفي يجوز الغوص في أسرار رسمه، ويجوز التساؤل، على سبيل المثال، عن الحكمة وراء كتابة كلمة "شجرة" تارة بالتاء المربوطة وتارة بالمبسوطة؟ أم أن الصحابة وُفِّقوا لكتابته على النحو الذي جاء في المصحف، مما يجعل أي بحث يروم التقصي في أسرار هذا الرسم، هو عبث فحسب، لكونه مجرد اجتهاد بشري؟ إن الغيرة المشروعة على كتاب الله، إضافة إلى عدم تقبل فكرة الوحي الذي يُلهِم به الله تعالى بعضا من مخلوقاته، وعدم استساغتها، هو ما يدفع غالبا في اتجاه تبني فكرة أن يكون الرسم العثماني توقيفيا، إلا أن هذا الرأي يجد نفسه أمام مزالق فكرية عظيمة، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه لتساؤلات مشروعة من قبيل: إذا كان الرسم وحيا منزلا على الرسول الكريم، فما مصير باقي المصاحف التي أحرقت بأمر من الخليفة عثمان، والتي لا تختلف فقط في رسم الكلمات، بل أيضا في زيادة بعض الحروف والكلمات أحيانا، وتقديم كلمات بعينها وتأخيرها تارة أخرى؟ ما مصير الابحاث الذي كانت تروم الوقوف عند الأسرار الكامنة وراء كتابة كلمة ما بطريقة غير مألوفة، إذا كنا لا ندري أصلا هل كتبت هذه الكلمة بنفس الطريقة أم لا، في المصاحف التي لم يُكتب لها البقاء؟ إذا كان القرآن كلام الخالق الأزلي، فكيف للغة العربية التي جاء القرآن بلسانها أن تكون مستحدثة من طرف المخلوق؟ إن الإذعان للرأي القائل بالوحي المنزل على الكائنات، من شأنه أن يحل كثيرا من الإشكالات العالقة، وعلى رأسها أن تكون اللغة العربية هي أيضا وحيا منزلا على البشر، وهذا ما يفسر تطابق قواعدها ومفرداتها مع كلام الله، كما أن التسليم بهذا الرأي يجعل الرسم العثماني يحتفظ بنفس القداسة والمهابة، حتى ولو لم يكن منزلا على نبيه الكريم، ما دام الأصل فيه هو الإلهام المُرْسل من عند الله، بغض النظر عن كنه المرُسل إليه. *عضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة