فرضت علينا الجريمة الإرهابية الوحشية التي ذهبت ضحيتها فتاتان من الدانمارك والنرويج بمنطقة إمليل حالة من الحزن والقلق والتساؤل. لقد وصل الشريط المصور الذي يظهر عملية الذبح إلى كل مكان في العالم، ودخل إلى كل البيوت في المغرب، ليحول الرعب إلى حالة جماعية. وبالنسبة لتنظيم "داعش"، فإن هذه العملية هي بمثابة "نجاح" في اختراق المغرب الذي ظل محصنا في وجه الإرهاب منذ سنوات طويلة. إنه لم يتمكن فقط من تنفيذ جريمة إرهابية، بل فعل ذلك بالطريقة التي يهلل لها في خطاباته وأشرطته الدعائية، وهي الذبح، وقام بتوثيق الجريمة في شريط بثه على مختلف المواقع، وأخذ ما يزيد على خمسة ملايين مغربي في أوروبا ودول العالم رهائن. لقد شاهدنا مشاهد مروعة مماثلة نفذها مجندو "داعش" في سوريا والعراق وليبيا وغيرها، تلك التي تصور وقائع وحشية في القتل والتمثيل بالجثث وقطع الرؤوس، وهي وقائع تتجاوز عمليات التفجير الإرهابي التي حصلت في العديد من بلدان العالم ونفذتها جماعات إرهابية. فعمليات التفجير بالقنابل والسيارات المفخخة هي عمليات كلاسيكية في تاريخ الإرهاب، قامت بها مختلف التنظيمات الإرهابية المسلحة في أوروبا في الماضي، ونفذتها الجماعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة في مختلف مناطق العالم خلال العقدين الأخيرين. في عمليات التفجير الإرهابي هناك مسافة بين منفذ الجريمة وبين الضحية، بمعنى أنه لا يحصل أي تماس بين الإثنين، وبالتالي فإن عملية القتل هنا هي عملية "جزافية" غير مشخصنة (non personnifié)، ذلك أن القاتل لا تتاح له الفرصة للنظر في عيون القتلى، أو الاقتراب من أجسادهم أو الاحتكاك بهم، فهو ينفذ العملية الإرهابية ليس باعتباره فاعلا رئيسيا مباشرا (un acteur immédiat)، بل بوصفه وسيطا بين أداة التفجير والضحية. وفي الحالة التي يفجر فيها الإرهابي نفسه، تزداد المسافة بين القاتل والضحية اتساعا لأن الإرهابي يتحول هنا إلى "ضحية عرضي" ويلقى المصير نفسه الذي يلقاه الضحية المباشر لكن لأهداف مختلفة. غير أن الأمر يختلف في حالة عمليات القتل المباشر، مثل العملية الأخيرة التي حصلت في إمليل. فالقاتل الإرهابي يحقق نوعا من التماس والالتصاق المباشر مع الضحية، ويتفنن في عملية القتل بطريقة وحشية تعكس حالة من الخواء الروحي لدى القاتل، يقابلها خواء روحي لدى الضحية الذي يتحول إلى مجرد عنصر مادي، لأن الإرهابي يفرغه من محتواه الإنساني نتيجة افتقاده، هو نفسه، لهذا المحتوى الإنساني. والسؤال هو: كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العنف المتوحش الذي يعكس غياب فلسفة المعنى في الوجود البشري؟ إنه سؤال واسع ومعقد ويحتاج إلى مئات الصفحات لتقديم مقترحات إجابة عليه، تأخذ بعين الاعتبار مختلف الأبعاد والعوامل المؤثرة في إنتاج العنف داخل المجتمع، يشترك فيه جميع المتخصصين في حقول العلوم الاجتماعية والفلسفية والدينية والنفسية وعلوم الميديا وعلمي التاريخ والحضارة. أعرف أن هناك إجابة تبسيطية جاهزة لدى الكثيرين، تتهم التربية الدينية أو الدين نفسه أو الاستعمار الأوروبي أو الهيمنة الغربية، لكنها في الحقيقة ليست إجابات علمية بل مجرد ردود فعل، ودور الفكر هو الابتعاد عن ردود الفعل إلى المقاربة الهادئة التي تتخذ المسافة الممكنة والضرورية بين الذات والظاهرة. يعكس ظهور العنف وجود تحولات عميقة في بنية القيم المجتمعية، الثقافية والدينية، التي تنعكس بدورها على بنية السلوك الفردي. إنها ظاهرة عالمية أصبحت اليوم جزء من قيم الحداثة نفسها. ويقول باحثون غربيون ذوو مصداقية إن الرأسمالية التي شكلت بداية نشأة العنف في العصر الحديث تمثل نوعا من العنف الرمزي والمادي ضد الإنسان لغايات معينة هي الربح، إنها تمارس المزيد من العنف الرمزي على نفسية وعقلية الإنسان المعاصر المستهلك لأنه لم يعد كائنا بشريا بل أداة استهلاك، وتحول من كائن (être) إلى مستهلك (consommateur). هذه الرأسمالية الربحية تحولت أيضا من العنف الرمزي إلى العنف المادي، فظهرت تجارة الأعضاء البشرية كعنف مادي ضد الإنسان، وهنا تحول الكائن البشري من مستهلك (consommateur) إلى أداة للاستهلاك (produit de consommation). وبسبب تلك التحولات أصبح العنف جزء من ثقافة الحداثة والحياة المعاصرة، وليس غريبا أن رائد السوسيولوجيا الفرنسية بيير بورديو صاغ نظرية شاملة حول"العنف الرمزي" (violence symbolique) كمفهوم يؤطر الممارسة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة، بحيث يرى أن العنف الرمزي أحد ميكانيزمات الهيمنة. فالعنف بات يسكن بيننا وأصبح جزء من بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية والإدارية، بفعل تطور أدوات وأساليب ممارسته. وكان ظهور التلفزيون نفسه بداية انتشار ثقافة العنف، ثم جاء ميلاد السينما وأفلام العنف ليحدث تحولات أعمق في بنية السلوك الإنساني، وبعدها جاءت شبكة الأنترنت لتعطي دفعة أكبر لثقافة العنف. وتظهر الإحصائيات أن العنف في العالم تزايد بشكل كبير في العقد الأخير، كما تنوعت أساليبه، بحيث أصبح أكثر وحشية. فهناك أربعة أشخاص بين كل 100 ألف نسمة يلقون مصرعهم في جرائم قتل عبر العالم، وتحتل كل المكسيك والبرازيل رأس القائمة من حيث عدد ضحايا جرائم القتل، حيث تتجاوز النسبة 25 شخصا بين كل 100 ألف شخص. وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية تزايدت وتيرة القتل الجماعي بحيث لا تمر أربعة أيام دون تسجيل حادثة قتل جماعي بالرصاص كما حصل في إحدى المدارس بتكساس في ماي الماضي، حيث قتل عشرة أطفال في مجزرة جماعية نفذها تلميذ لا يتجاوز عمره 17 سنة. أحد الأسباب الرئيسية للجرائم التي يقف وراءها أطفال أو شبان يرجع إلى انتشار ألعاب الفيديو العنيفة، لكن أيضا إلى الأفلام السينمائية الأمريكية التي يعتبر العنف جزء من السيناريو فيها؛ إذ لا يكاد يوجد فيلم واحد لا يعرض مشهدا واحدا للعنف، حتى أصبح العنف جزء من "الفن". وحتى لا يطول بنا الحديث نكتفي بإشارة صغيرة هي أن الثقافة الغربية الحديثة مؤسسة على العنف بحيث لا تستطيع التمييز بين العنف والثقافة فيها، ذلك أن الثقافة الغربية أسست على الفكرين الإغريقي والروماني اللذين يعتبر العنف فيهما مكونا أساسيا، ففي الأول يمثل الصراع العنيف بين الآلهة والبشر طقسا دينيا وثقافيا، وفي الثانية يمثل الصراع العنيف بين الأباطرة طقسا سياسيا. ولا يشذ المجتمع المغربي عن هذه القاعدة، فنحن نلاحظ في العقد الأخير انتشارا رهيبا للعنف بمختلف أشكاله الغريبة. وإذا كانت الجريمة قديمة قدم البشرية، فإنها قد خضعت للتحول في طبيعتها ودوافعها بشكل مثير للغاية بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي انعكست على سيكولوجيا الفرد. لم يعد الإنسان اليوم يكتفي بالقتل فقط، بل يقطع رأس الضحية، ولم يعد المغتصب يغتصب الضحية ثم ينسحب، بل يقطع جسدها ويضعه في أكياس، إلى غير ذلك من الجرائم التي تمثل البشاعة. ومع وسائل التواصل "الاجتماعي" زادت حدة الجرائم، ذلك أن صور الجرائم أصبحت تنتقل عبر الشبكة بكل سهولة مما خلق نوعا من التطبيع مع الجريمة. وتعكس هذه الوسائل ظاهرة غريبة أصبحت جزء من المكون الإنساني في هذا العصر، وهي الحيادية والبرود في نقل الجريمة. ذلك أن مختلف هذه الجرائم يتم تصويرها وبثها من طرف أشخاص يحضرون الواقعة ويكتفون بتصويرها، فقد حل "التصوير" محل "التدخل" في الماضي. وإذا كان مقترف الجريمة يتسم بحس إجرامي واضح، فإن المصور نفسه لا يمكن إعفاؤه من مسؤولية فائض العنف لدى المجرم الأصلي. إنها ثقافة المشاركة في العنف عبر اتخاذ مسافة منه. ويعد هذا تحولا خطيرا في سيكولوجية الفرد؛ إذ التصوير ليس فقط نوعا من الاحتجاج أو رغبة في الكشف، بل هو أيضا نوع من التطبيع اليومي غير المُدرَك مع الجريمة. إننا نحتاج اليوم إلى حوار وطني حقيقي وجدي لفهم ومعالجة ظاهرة الجريمة والانحراف السلوكي والتطرف لدى الشباب. إن كلمة "وطني" هنا تعني الدفاع على الوطن، وتعني رغبة في إنقاذ صورتنا أمام أنفسنا أولا ثم أمام الآخر. فنحن نعتقد أن الأمر أعقد بكثير من تلك التفسيرات الاختزالية المبسطة التي يلجأ إليها البعض، باتهام الدين أو الضمير الجمعي أو الثقافة المغربية بإنتاج العنف، لأننا نعتقد أن السلوك الإرهابي هو بدرجة أولى سلوك عنيف، ثم يأخذ بعد ذلك طابعا معينا قد يكون سياسيا أو دينيا. والخطاب الديني أو السياسي المتطرف لا يلقى استجابة لدى المتلقي إلا بعدما يكون هذا الأخير قد حسم علاقته بإرادة العنف، أي بأن يكون العنف لديه قد أصبح طاقة مخزنة تبحث عن الانفجار. إننا لا ننكر أن في تراثنا الديني عناصر منتجة للعنف، بكل بساطة لأن أي تراث إنساني يتنازعه العنف والسلم، وكما توجد عناصر منتجة للعنف في تراثنا الإسلامي توجد العناصر نفسها في التراث الأوروبي وغير الأوروبي، ولكن تلك العناصر لا تعمل إلا في مراحل الأزمة والاختناق الحضاري. وقد ظل هذا التراث الإسلامي حيا طوال قرون لكنه لم ينتج هذه الكمية من العنف التي نراها اليوم، بل كان هذا التراث يُدرس ويُحفظ في دور التعليم وكان للناس اتصال يومي به، خلافا لما هو عليه الأمر اليوم، لكن مع ذلك لم يؤد إلى هذه الجاهلية الرعناء التي تعيش بيننا، فإذا كان هذا التراث سببا لهذا العنف كان على أجدادنا السابقين أن يكونوا أكثر عنفا منا نحن اليوم، لأنهم كانوا يعيشون بهذا التراث ويتنفسون به. وقد ظل جامع القرويين بفاس يخرج الطلبة كل عام بعد أن يحفظوا متون الأصول والفقه، ولكن التاريخ لا يقول لنا إن خريجي القرويين كانوا يمارسون القتل لأنهم متشبعون بالتراث، الأمر الوحيد الذي يخبرنا به التاريخ أن هؤلاء الخريجين هم الذين تصدوا للاستعمار الفرنسي. ولذلك بدل التساؤل عن مسؤولية التراث الإسلامي في إنتاج العنف، يجب التساؤل عن مصدر نزعة العنف الجديدة ومسؤولية التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في إنتاجه.