أعترف بأن الإعلام على قلة ما ينوء بحمله، وما يروم ببذله، نصرة لأهل الحق من عامة الشعب، قد يفضي أحيانا إلى اللاجدوى، وإلى طمر المطالب والحقوق عن أصحابها. وهذا لا يقلل البتة من قيمة المنبر، أو يضع عن رمزيته السلطة التي تقام على حد الكلمة. بل يكون من سابع المستحيلات أن يتضامن من هم أولى بالدفاع عن الرسالة الإعلامية وهم على خط التماس بين الحق والباطل. أما إذا كان الطرف الظنين ممن يدعي التفكير والهم الثقافي وترويج الكتاب، هو المتهم فالخوف كل الخوف على المبدئية وشرطيتها في تحفيز الآخرين على السير بالهدي والرشاد. يحدث ذلك عندما لا نجد دليلا واحدا على أسباب تعسف بعض مدعي الطهرانية وانحدارهم إلى قاع الأخلاق. وقد يكون هؤلاء المتلونون منقوعين ببهارات الحجاج وتطويع البيانات رأبا لانزلاقات النقص الذي يعتمل منشأهم الاجتماعي وعوارهم السيكولوجي، فيكونون أقرب إلى الإقناع منهم إلى الكذب والبهتان. ولعمري إنها نفس ما نطقت به بلاغة الرسول العظيم محمد بن عبد الله، إذ قال: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا، أَوْ لِيَتْرُكْهَا). فلا يعدمن هؤلاء لو كانوا مندوحين لذلك، يرفضون أن يكونوا طرفا في حوار تديره وسيلة إعلام وسيطة، بل يتدبرون المكائد لتحريف مسلكية هذا المنبر. فيصير بعد نية مبيتة أعداء مبينون وناكرون للعدالة الاجتماعية وكرامة المواطن. ومن أخطر العواقب على الناس أن يلدغوا من أصحاب العقل. ومن غرائب الدنيا وعجائبها أن يملك هؤلاء رقاب الحقائق في تفكيرهم دون اعتمالها في واقع ممارستهم للفعل والمجتمع. حتى إنهم يجيشون بالأهواء ويلتحفونها باطلا دون إمساك النظر بالقدوة والاعتبار. ويكبر السؤال ويحتد عندما تقطع بلا جدوى انتقاد أساليب هؤلاء في الالتفاف والمناورة وتحويل الحوار إلى نافذة للطرش والعناد. ومن أقسى تلكم العوادم الإنسانية أن تعرف عن قرب واحدا ممن تحدثنا عنهم، معلوما يتخفى في لباس جنرال سياسي، يتمتع بصفة معتقل سابق، تخطى كل حواجز أزمنة النضال، من الجامعة إلى حائط اليسار الراديكالي، إلى قيادي عتيد في فصيل اشتراكي ذاب بعد فشل مشروعه الهش، ثم خبيرا استراتيجيا في كل شيء، من حبة الخرذل إلى جبل توبقال. صدق من قال نرى ما لا نريد، ونريد ما لا نرى فنفقد قيمة ما نرى، ونضيع في سراب ما لا نرى. سأكون حريصاً على ألا أفقد قيمة ما أرى. فما يمكن أن نراه واقعا وحقيقة، ليس ذا قيمة أخلاقية حتما؛ لكن القيمة الحقيقية أن تكشف عنه الغطاء الذي كان يستر عورته الباطلة، فالقناع الذي يمكن أن يرتديه الكاذب طيلة رحلته المسرحية كفيل بدحض نظرية خلق الإنسان وتطوره وانتقاله من الصمت تحت جلد قرد إلى الكلام فوق عقل بشر.. إن اندحار ما يزعم أنه مجتمع مدني إلى تحويل أداءاته المشوشة، إلى ما يشبه التفخيخ السياسي والمغامرة بقضايا الوطن، خصوصا ما يتعلق بقيم التنمية والشباب، يرمي الأحجار الكبيرة في المستنقع الآسن ! التأخير المقصود لأهداف المجتمع المدني الأساسية، المرتبطة بمشاريع الثقافة والمراهنة على تخليقها وتقويتها في صلب اهتمامات المجتمع، سيؤخر لا محالة مفهوم إدارة التنمية واستدامتها. العقل الذي يدبر مكيدة تذكية سؤال هيمنة السياسي على الثقافي يحد، بشكل مباشر مع إصرار وترصد، من جاهزية المجتمع الثقافي المدني من تحقيق جزء إستراتيجي لاحتواء إمكانية قابلية الإصلاح، وبالتالي تعميق أزمة التنمية، وتغييب المنطلقات الكبرى لبنائها على قواعد ذات أولوية ثقافية، وليس شيئا آخر! ارحمونا ودعونا نتدارك ما ضاع، فقد كبلتمونا بقيود الهدر والإغفال والعماء المضلل! ؟