في 17 دجنبر 1959، أفادت قصاصة عممتها وكالة المغرب العربي للأنباء، استنادا لأوساط وصفتها بالقريبة من المحكمة الإقليمية بالرباط، بأنه على إثر انعقاد المجلس الوزاري يوم 14 دجنبر الذي خصصت مداولاته للنظر في قضية جريدة "التحرير" أصدر قاضي التحقيق بالمحكمة الإقليمية بالرباط، أمرا بإحضار السيد محمد البصري مديرها والسيد عبد الرحمان اليوسفي رئيس تحريرها. وبعدما حضرا أمامه يوم الثلاثاء 15 دجنبر واستنطاقهما، وجه إليهما عددا من التهم؛ من بينها "تهجمات على مقام صاحب الجلالة المعاقب عليها طبقا للفصل 41 من قانون الصحافة"، وهي "التهجمات" التي لم يفصح عن طبيعتها. وذكرت الوكالة أن التهم التي وجهها قاضي التحقيق إلى البصري واليوسفي تتعلق أيضا ب" التحريض على ارتكاب جرائم ضد أمن الدولة المعاقب عليها طبقا للمادة 39 من نفس القانون"، و"القيام بأعمال من شأنها أن تخل بالأمن العام". وبأمر من قاضي التحقيق، أوضحت الوكالة أن الشرطة أوقفت بالدار البيضاء محمد البصري مدير صحيفة "التحرير"، وعبد الرحمان اليوسفي رئيس تحريرها. وبعد أن نقلا إلى الرباط، أصدر القاضي أوامره ب"إلقائهما في الحبس الاحتياطي، رهن التحقيق"، بناء على البلاغ الصادر عن الديوان الملكي بشأن صحيفة "التحرير" والذي أحال الأمر إلى القضاء لمتابعة المسؤولين عنها. وتحت عنوان "بقانون بن عرفة يحاكمون اليوم"، كتبت جريدة "الرأي العام"، لسان حزب الشورى والاستقلال، التي كان يديرها المرحوم أحمد بن سودة، بعد بث قصاصة "لاماب"، أنه تبين أن قاضي البحث وجه إلي البصري واليوسفي تهما أربع خطيرة ينطق ببعضها لأول مرة في عهد الاستقلال ضد وطنيين معروفين ومقاومين بارزين، موضحة أن "جميع التهم التي يدين بها القانون الجاري به العمل في المغرب إدانات وتبتدئ من الغرامة والسجن العادي ولمدة قصيرة، وتتدرج حتى تتصل إلى عقوبتي السجن المؤبد والإعدام"، وفق ظهير وقّع عليه ابن عرفة بعد نفي الملك محمد الخامس. وأضافت قائلة في هذا الصدد: "إذ من المعلوم أن هذا "الظهير" لم يشف غليل المشرعين الفرنسيين، إذ ذاك، فقدموا لابن عرفة ظهيرا آخر مؤرخا ب19 أبريل 1954 يتمم القانون السابق، وينص على الحكم بالإعدام بدلا من السجن المؤبد". وذكرت الجريدة بأن "التشريع اضطر إلى هذا التغيير أمام استفحال خطر المقاومة الوطنية، وامتداد لهيبها في المدن والقرى". وتساءلت "أليس، إذن، غريبا أن يحاكم اليوم البصري واليوسفي، بهذه المواد وبالقانون الذي يرجع إلى ظروف خطيرة نحمد الله على أنها قد دخلت في خبر كان؟". وأكدت الصحيفة الشورية "لقد كان القدر يخبئ للبصري أن يحاكم بهذا القانون، عندما كان معتقلا من طرف الاستعمار وأعوان ابن عرفة لولا أنه نظم هروبه من سجن القنيطرة مؤمنة من إخوانه المقاومين أفلتوا بأعجوبة، وعادوا ليلهبوا حماس المقاومين وينظموا حركة المقاومة". وقالت "أيكون الدهر الساخر قد ادخر هذا القانون وما جاء فيه من مواد ليحاكم به البصري لا في عهد ابن عرفة ولكن في عهد الاستقلال؟". واستغربت "الرأي العام" من أن "ستة إجراءات استفزازية" اتخذت ضد جريدة "التحرير" في ظرف أسبوعين اثنين؛ منها حجزها ومنعها عن الصدور، قبل أن يتم اعتقال مديرها ورئيس تحريرها". وبعنوان "حبل الخيانة قصير"، تساءلت جريدة "الرأي العام" في افتتاحيتها "هل يعقل أن يكون اليوم في زنزانات السجن من كانوا دائما للملك عونا ولقضيته جندا، في حين كيف يكون على رأس بعض المسؤوليات من ركعوا إلى ابن عرفة أيام كان البصري (الفقيه) واليوسفي يجيشان الجيوش لإحباط كيد الاستعمار المتآمر على سيادة المغرب في شخص محمد الخامس". إذا كان القانون يراعى في هذه البلاد- لا يسمح باعتقال رجال الصحافة بهذا الشكل وقانون الصحافة، لا يبيح اعتقال رئيس تحرير جريدة ما- تساءل كاتب الافتتاحية - ، لأنه غير مسؤول قانونيا. فلماذا إذن اعتقل البصري واليوسفي بهذه الكيفية..؟ بل لماذا اعتقل اليوسفي؟ سؤال نرجو أن يزول من أذهاننا – ومن أذهان الناس في الداخل والخارج "الذين يتساءلون عن أسباب اعتقال هاتين الشخصيتين المعروفتين بكفاحهما ونضالهما، في سبيل استقلال بلادهما وتقدمها الشيء الكثير" ويستغربون من اعتبار المعتقلين كمجرمين وحرمانهم من حقوقهم السياسية . وأشادت "الرأي العام" بالدور الذي قامت به الصحافة احتجاجا على اعتقال اليوسفي والبصري، بالقول "حيا الله الصحافة.. التي رددت أصداء هذا الحادث مناصرة للحرية منددة بالاضطهاد، لم يتخلف منها عن هذه الخطة إلا صحافة الاستعمار وأعوانه فقد وجدت هذه في الحادث ما ينقع غلتها، ويروى ظمأها إلى الكيد للأحرار، والتشفي منهم حين يمتحنون، ولكنه كيد العاجز وتشفي الوضيع، ولا يضر السحاب نبح الكلاب". ونقلت "الرأي العام" عن الكتابة العامة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التعبير، في بلاغ لها، عن "احتجاجاتها الصارمة على هذه التدابير والتصرفات التي تفضح أمام الرأي العام الأغراض الرخيصة المستهدفة من هذه التدابير والتي تحاول بها عناصر الفساد المعروفة من لدن الشعب المغربي حماية فسادها من انتقاد لم تمله إلا المصلحة الوطنية وحدها". و"لإخفاء هذه الأغراض – توضح الكتابة العامة للحزب- تتجرأ تلك العناصر حتى التستر وراء اسم صاحب الجلالة بغية أحداث ثغرة في التضامن القائم بين جلالته والقوات الشعبية ذلك التضامن الذي كان دائما ذخرا حقق به الملك والشعب انتصارات باهرة في الكفاح الوطني". وبعدما أكدت الكتابة العامة على أنها "شاعرة بأن هؤلاء المفسدين لن يخلو لهم المجال إلا في جو الاستفزازات التي لم يفتؤوا يخلقونها ويغدونها"، أهابت ب"الشعب المغربي أن يحتفظ بحذره ويقظته حتى لا يقع في الفخ الذي نصبه أعوان الاستعمار المتربصون باستقلاله، وتطالب بوضع حد لهذا الدور الاستفزازي، بإطلاق سراح الأخوين (البصري واليوسفي) وبرفع التدابير الجائرة التي ظلت جريدة "التحرير" تستهدف لها حتى تستطيع أداء رسالتها الوطنية على الوجه الأكمل". *تجدر الإشارة إلى أن هذا المقال يندرج في إطار مؤلف قيد الإنجاز حول تاريخ الوقائع الصحافية والمؤسسات الإعلامية بالمغرب، منذ الاستقلال سنة 1956 سنة إلى دستور 2011؛ ومنها رصد لأبرز الأحداث، ومنها أكبر المحاكمات التي طالت الصحافة والصحافيين. *صحافي باحث في الإعلام والاتصال