( ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به، أو يحرمه من حق التفكير كما يهوى.) سقراط لم يعد ثمة إمكانٌ للقول بأن المغرب العشريني في القرن الحادي والعشرين، أو في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة، قطع مع نزعة الاستبداد والاحتواء، والتدجين، والالتفاف على حقوق الإنسان جملة وتفصيلا. ووضع حداً للاعتداء على الحريات الفردية ولو في حدودها الدنيا، حدودها التي لا تمس حدود الآخرين بحال من الأحوال. والسبب في هذا يعود في نظرنا إلى تردده القاتل، وحيرته المستدامة في الولوج إلى " نادي " الديموقراطية، قولا وفعلا، إرادة وتنفيذا. فما زلنا إلى حدود الساعة نقدم رِجْلاً ونؤخر رجلا مثل الحرباء في صورة تكاد لا تنتهي من الارتباك والتذبذب، ومحو ما يتخذ بالليل في صبيحة اليوم الموالي، وما يتخذ في صبيحة اليوم الموالي، في أول الغسق. ولسنا في حاجة إلى شرب حليب السباع، كي نصدع بالقول إن المغرب مغربان: مغرب الواجهة، ومغرب الخلف والوراء. وإلا سنكون متواطئين إذا انتمينا إلى المغرب الأول، وكِلْنا له المديح والثناء، وحجبنا الحقيقة الفاقعة. إذ من شأن ذلك أن يجعلنا نبارك ما يجري وما يحدث آناء الليل وأطراف النهار، وما نراه ونعاينه من غطرسة وتنمر، وقمع، وقهر، وسلب للحريات، وزج بذوي الرأي، وذوي المطالب في غياهب السجون بعد اختراع تهم أخلاقية بالأساس لهم حتى يفت الأمر في عضدهم، ويشوه سمعتهم أمام الآباء والأبناء والأقارب والأباعد والأصدقاء، ما يحملهم مرغمين على طلب " النجدة "، واستعجال الخروج مما ورطوا فيه، ليبتلعوا ألسنتهم مخافة الاستعادة والعودة إلى التشهير بهم، وكسر ما بقي من عظامهم. مغرب الواجهة، يعني بالوجيز الواضح: المغرب المُسَوَّق والمُصَدَّر في إعلانات براقة، وإعلام مخدوم، ويافطات مزوقة، وعلب لامعة، وصناديق محكمة الإغلاق، مُزَرَّرة، وبألف شريط ملون مدورة ومزَنَّرة. مغرب يستدرج الآخر، الغير، الأوروبي والأمريكي، والأسيوي، للقول بأن البلاد سعيدة، ترفل في بحبوحة العيش، وتطير مع طيور الحرية ولدانا وأطفالا، ونساء ورجالا. يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق هانئين قانعين مطمئنين، يمرحون ويسرحون، خُلْواً من كل ما يعكر صفو أمزجتهم، ومن كل شَوْبٍ ينغص رفاههم. فالتعليم معمم في المدن والقرى والمداشر. والمؤسسات التربوية في طول البلاد وعرضها مؤهلة تأهيلا بيداغوجيا ووسائطيا وجماليا وبيئيا، لا يرتاب فيه إلا مرتاب، إلا من كان في قلبه مرض، وأراد الشر لهذه البلاد. والمشافي، ومراكز الصحة، والعيادات، تغري بالذهاب إليها، والتيمم شطرها، ولو لم يكن بنا داء. إذ الأسِرَّةُ متوفرة فائضة، والأجهزة الطبية المختلفة رهن الحاجات والطلبات، وتحت إشارة الأصحاء والمرضى ولو تزايدوا وتناسلوا وتكاثروا. والشباب واجدٌ ما يبتغيه، وما يسعى إليه: فالمصانع، والمعامل، والمعاهد، والأوراش، والخدمات المتنوعة، والوظائف المفتوحة المعلنة، تناديهم في الآصال والأسحار : أينكم يا أولادي، فانا بائرة قتلني انتظار الأيادي. أريدكم أن تتزوجوني، وتُبَرِّجوني، وتشمروا عن سواعدكم المفتولة دوني. لكن، هل نجح مغرب الواجهة في تسويق نفسه في العالم البراني؟. أبداً، ذلك أن ما يخرج إلى العلن بين الفينة والأخرى من قِبَلِ منظمة الأممالمتحدة للتنمية، وغيرها من المنظمات ذات الأهداف نفسها، ينزع القناع، ويعري " سوءة" البلاد، ويكشف المستور، ويستنطق المحظور، ويطعن في التسويق والتزويق والتلفيق. فالتعليم، وفق المنظمات العالمية المستقصية والمعيرنة، في الحضيض. لم ينفع معه الاختبار تلو الاختبار، والتجريب تلو التجريب، واستيراد واستبدال المناهج والبرامج مثلما نفعل بالثياب. لأن إرادة الحسم لإخراجه من عنق الزجاجة، غائبة ومغيبة. وقل الشيء نفسه عن قطاع الصحة والتمريض الذي يبكي. وكلنا يعرف استفحال أنواع الأمراض والأدواء، وانخفاض عدد الأطباء والممرضين والدواء. ما يعني أنه على المرضى أن يتدبروا أمرهم: أن " يشتروا " الأَسِرَّة، والضمادات، والخيوط الراتقة للجروح، و المحاليل القاعدية التي من المفروض أن تكون موجودة بالدزينة والوفرة في المشافي العمومية. وعليهم أن يدفعوا إذا شاءوا أن " يتمتعوا " بالاهتمام والعناية والرعاية والعلاج. أما عن الشغل، وإدماج الشباب( ات )، في سوق العمل، وتوظيفهم ( ن)، فالهجرة المكثفة المتواترة، وأمواج البحر الصاخبة التي تأكل أبناء الوطن، وحدها تجيب، وتكشف العجيب إلا من به عمىً أو تعامٍ، أو وَقْرٌ. والأدهى والأمَرُّ، أن بعضا من هذا ينسحب على خريجينا وأطرنا، فيمس مهندسين ( ات )، وأطباء ( ات )، وممرضين ( ات )، ونوابغ في ميادين تكاد تكون موقوفة على الغرب وأمريكا. وإذاً، فإن مغرب الخلف والوراء، هو مغرب الشباب العريض، مغرب الفقراء، والأميين، والمتسولين الذين تكاثروا بشكل غير مسبوق، والأطفال المحشورين في السفوح، وخواصر الجبال، وحفر الدواوير، وترع المداشر. وأيضا مغرب السياسيين الديموقراطيين الشرفاء، والإعلاميين النزهاء، والفاعلين الحقوقيين، والجمعويين، والمثقفين العضويين. فهؤلاء هم من يتصدى ويبادر لكشف العُوار، ووضع اليد على الاختلالات البنيوية التي تعرفها البلاد، وعلى هول الفوارق الاجتماعية والطبقية والمجالية، وعلى وباء الريع الاقتصادي، وفاحشة الإثراء غير المشروع، وضمور الشغل، وتراجع التعليم على كل الأصعدة، وانكماش البحث العلمي في الجامعات، وخلط لغات التدريس، وتدريس اللغات بشكل كاريكاتوري، لكن: مستهدف ومقصود. هي ذي التراجعات التي نعيش ونلمس. وهي ما دفع بإعلاميين أحرار للصدع بما رأوه واجبا وطنيا، وحقا تعبيريا إنسانيا. من منطلق وطنيتهم ومغربيتهم، وإنسانيتهم وضميرهم. ومن منطلق بنود الدستور التي تعلي من شأن المواطنة، والحريات المختلفة، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والتفكير والضمير. غير أن ما اعتقدوه ناجزا محسوما، واعتبروه قانونا يحميهم، جَرَّ ببعضهم إلى السجون، ودمغهم بأشنع التشهير، وسام البعض الآخر ألوانا من الاضطهاد والتضييق والوعيد. زد على ذلك، أن لفيفا من التلاميذ، والمُبَطَّلين، توبعوا وحوكموا محاكمات قاسية لم تراعِ حداثة سنهم، ولا تمدرسهم بالتعليم الثانوي، وزادهم الضئيل من المعرفة والسياسة، ووضعهم البائس الذي فجر غضبهم فعبروا عنه بتدوينات، أو أشرطة فيديو غنائية، مستعملين حقا مشروعا من حقوق الإنسان، وهو: حرية الرأي والتعبير. علما أنهم يستخدمون قاموسا من الشتائم والسباب، والكراهية. وكان بالإمكان تنويرهم في ما هو حرية وما هو قذف. ماهو رأي نابع من أحزانهم ويأسهم، وما هو مس ب" الثوابت " مثلا. وما هو نقد بناء، وما هو اجتراء واندفاع وسواد أعمى. وفي كل الأحوال، فالفيصل هو الحق في التعبير، وفي إبداء الرأي، والتنفيس عن المكبوت والمقموع والمخيف. ثم، لماذا يتم تغييب موقف الملك الواضح بعدم تفعيل الفصل 179 في وجه المواطنين.؟ والآن، هل من مُذَكّر بأن علاج الآفة والجائحة التي تمر بها البلاد، من إجهاز على الحريات، وتقييد الحق في التظاهر والإضراب، وملاحقة العديد من النشطاء الحقوقيين والصحافيين، يكمن في القطع مع ظاهرة التغول، وفي تحرير الإرادات والمبادرات، وتحفيز الاجتهادات، وإيلاء الأهمية والاعتبار للثقافة والعلم والفن والتعليم. وفي بناء الديموقراطية والإيمان بها مفهوماً ومَخْرجاً، وأجرأة وإعمالا وتدبيراً. إن العطب معروف. فوجب جبره وتقويمه التقويم الصحيح الناجع والإرادي، وهو التعليم العام. وعلى مستوى آخر، يتعين تحريك المتابعة القضائية في حق الفاسدين والمفسدين، وتفعيل مبدأ الحوكمة ضد المسؤولين عن التجاوزات، وعن التردي الحقوقي والاجتماعي والاقتصادي الذي آلت إليه أوضاع البلاد والعباد.