إشكالية مؤرقة في العشر سنوات الأخيرة، وفي خضم التحولات السوسيواقتصادية التي عرفها المغرب، اتخذت علاقات التعامل اليومي، وبالأخص في القطاعات الخدماتية، منحى آخر، ستسكنه قيم جديدة قائمة على الغش والنصب والاحتيال والبطء واستغلال النفوذ..، مما ستكون له تداعيات جد فارقة في تعطيل المشاريع، وتضييق الخناق على المواطن، وإرغامه أحيانا، بكيفية غير مباشرة، على الخضوع لإملاءات ثقافية متفشية داخل دواليب الحياة والمعيش اليومي، تستمد مرجعياتها من واقع إداري متعفن، يقضي بالزبونية في انتقاء الأوراش، والتأخر في تسديد المستحقات، مما يكون حافزا لفتح الأبواب مشرعة أمام الغش والاحتيال والتسويف وتحويل البرامج والمشاريع إلى مساحات للمناورة والتقزيم.. ترى ما هي خلفيات هذه الظاهرة والوقود الذي يقف وراء استشرائها؟ هل لدينا أجهزة مراقبة؟ بالنظر إلى خطاب الحكومة الغوغائي من جهة، وما راكمه قضاؤنا من نصوص وقوانين جامدة من جهة أخرى، ظلت إدارتنا من أعلى مستوى على دأبها ونهجها في أساليب تعاملها مع المواطن، وفي مضمار الصفقات خاصة، حيث غياب الشفافية والصرامة في تطبيق القانون، اللذين حلت محلهما الزبونية والانتهازية، التي تحولت معها عادة إجراء المناقصات في انتقاء أسواق تنفيذ المشاريع إلى مجرد مناورات أو بالأحرى ذر الرماد في الأعين، من تداعياتها الأولية بتر الميزانيات المرصودة والتقتير في الدفع بها إلى المقاول/ الزبون أو المكلف بتنفيذ المشروع، وتبعا له تأتي أشغاله بوتيرة بطيئة ومغشوشة، وبعضهم يتذرع أحيانا بهزالة الميزانية التي توصل بها، علما أن ميزانية المشروع الواحد أحيانا تمر من عدة جهات؛ مركزية وجهوية وإقليمية ثم محلية أو الجماعة، لتنتهي في أيدي المقاول متآكلة، وقد تصل نسبة هذا "القضم" أحيانا إلى %50، أي أن المشروع إذا كان قد رصد له، على سبيل المثال، 5 مليارات، فلن ير منها على أرض الواقع سوى 2 إلى 3 مليارات! والمفارقة الغريبة أمام هذا الزحف الأعمى للفساد أن جهاز المراقبة، هو الآخر، ينجرف مع التيار، إما بتحجيم دوره حينما يعلم بأن إدارة المشروع ذات سطوة ونفوذ، أو تناله نتف من البقشيش ليحجم عن عمله المراقباتي أو يعمد إلى تقنية صورية في إعداد تقاريره. تغلغل الظاهرة إلى خدمات صغرى جميع المغاربة، بمختلف أطيافهم، يكتوون يوميا بنيران "سير واجي"، "ماكينْش الريزو"، "تقاضات السّلعة"، "خصّاك تبدّل لابواط فيتاس كلها "…الخ من المقالب التي يزخر بها قاموس خدماتنا. ولعل أبسطها وأعمقها دلالة التعاقد مع مقاول/ "بناي" لترميم منشأة فسيصطدم المواطن، لا محالة، بعراقيل لم تكن لتخطر في حسبانه، منها الوتيرة البطيئة في الأشغال، وانزياحها عن المخطط الذي تم التعاقد حوله، ثم أخيرا عدم الالتزام بالجدول الزمني المقرر. وفوق هذا وذاك لا وجود لضمانات ولا رقيب ولا حسيب يمكنه أن يضع حدا لهذا التلاعب والاستهتار بمصالح المواطن، علما أنه فيما مضى كانت لكل حرفة "أمينها"، الذي كان بمثابة مراقب يتولى الحفاظ على سمعة المهن والمهنيين، فضلا عن دور التوافق والتراضي الذي كان يتولاه بين الحرفيين والمواطنين في كل الخدمات المعروضة. عنصر التكوين.. باهت تبعا لتتبع الظاهرة أو الخدمات المغشوشة والوقوف عليها في مهدها الأول، تجدر الإشارة إلى أن عنصر التكوين بالكاد منتفٍ داخل الورشات والخدمات الصغرى، وأن المستخدم أو "التقني" فقط، وقبل أن يزاول هذه المهنة أو بالأحرى التعاطي لها، يمر من مرحلة "التقليد" ليكتسب الصنعة، ومرحلة التقليد هذه لا تستغرق أشهرا معدودة حتى يستقل بورشته ويصبح متفردا في "الصنعة" وفق معارف وممارسات ميدانية جلها محفوف بالأخطاء ومرفوق بقاموس التعامل بها مع المواطن.. فإذا عهدت إليه بحاسوب لاستصلاحه ربما كلفك مبلغ شرائه جديدا أو عطّله بالمرة، أما إذا استقضيته في إصلاح خلل في الدورة الكهربائية المنزلية أو عطل بجهاز التبريد.. فإما أشّر على تخريبه بالكامل أو كلفك قطع غيار، قد تشتغل إلى حين ويعود كل شيء إلى نقطة الصفر! عنصر الثقة في خدماتنا في هذا السياق يكفي استحضار مباراة ودية كان المغرب قد استضاف خلالها المنتخب الأرجنتيني لكرة القدم. لاحظ المغاربة وكل المتتبعين مهزلة كروية على عدة مستويات، مستوى الطقس الذي رافقها، والذي لعبت فيه الرياح دورا هاما في التطويح بالكرة، إما لصالح هذا الفريق أو ذاك، ثم مستوى الإنارة، التي كانت هي الأخرى تتراقص مع تيارات الرياح الهوجاء، ثم أخيرا نفايات الأكياس البلاستيكية التي حملتها الرياح وجعلتها عنصر "فرجة" تتطاير فوق رؤوس اللاعبين، وأحيانا تعيق قذفاتهم. أصابع اللوم في هذه "المهزلة" لا تقصي أحدا من هؤلاء، المبرمجين والتقنيين وعمال المراقبة والصيانة، والأدهى والأمر أن هذه المقابلة كانت كوة صغيرة جعلت المراقبين يندهشون ويحتارون في أمر بلد طلب أكثر من خمس مرات احتضان المونديال، وهو لم يحسن بعد إجراء مقابلة وفق مواصفات ومعايير دولية.