بث شيخ داعية قبل أسبوعين فيديو يروي فيه ملحمة تاريخية، وتوبلها بالجائحات مستشهدا ببضع آيات قرآنية، ومرويات وأحاديث متباينة. عندما تنتهي من مشاهدة الشريط في حوالي 25 دقيقة، تحس كما لو أنك أمام فقيه ضليع في محراب خطبة يوم جمعة عادٍ؛ فجميع الأحاديث والمرويات معلومة لدى السامعين، لكن الشيء غير المعلوم هو الرقم القياسي للمشاهدة، حيت تعدى بضعة ملايين على منصة "يوتيوب". في المقابل، وعلى الجانب الآخر، يعالج طبيب خريج جامعة الطب بفرنسا أو غيرها من المؤسسات العلمية المشهود لها بالكفاءة والخبرة الأكاديمية، تجليات الجائحة وفق آخر ما جادت به المختبرات العلمية، ويوجز في أساليب الوقاية ويتطرق إلى خطورة الجائحة بالصورة والصوت، لينتهي الرقم بعد أسبوعين إلى 20 ألف مشاهدة أو يزيد بقليل. هنا تحديدا يتعمق السؤال، لماذا يثق الناس بالشيخ الداعي ولا يقيمون وزنا لكلام الطبيب؟ ليس سيئا أبدا أن يكون عصرنا عصر الشيوخ والدعاة ورجال الدين بامتياز، بدل عصر العلوم والمختبرات؛ فمنذ 14 قرنا للشيوخ والدعاة السيادة والريادة في الوعظ والإرشاد والفتوى والتوجيه، وكلامهم شبه مقدس وفتاويهم في الصدارة، لا سيما زمن الأوبئة والجائحات. ليس لأنهم الأنجع والأقرب دائما إلى الجمهور في المجالس والمنتديات العائلية وعلى محراب يوم الجمعة فحسب، بل لأن كلامهم الذي ينهل من القرآن والسنة مرغوب ومطلوب ومسموع دون أدنى تحفظ، وآراءهم وملاحظاتهم في المواضيع المطروحة للنقاش سديدة وقابلة للإقناع وللتطبيق على الفور بلا منازع. هذا ما يؤكده الموروث والتواترات في الرواية والنقل التاريخي منذ بداية الدعوة حتى اليوم. ولأن المجال مفتوح وحرية الرأي مكفولة، سوف نرى على الجانب الآخر من هذه المعادلة آراء وطروحات ووجهات نظر من زوايا مختلفة، يبسطها بعض المشتغلين في مجال الفكر والأدب والفنون والعلوم، لكنها تفكك وتركب بعيدا عن القرآن والسنة، معتمدة آلية ومنهجية يقرها البحث العلمي الصرف. ولأنها كذلك، أي أنها لا تنهل من الموروث الديني، وتسبح خارج عباءة الدين، فهي معرضة للتبخيس بالضرورة، هذه الطروحات يتم الاستخفاف بأصحابها لأول وهلة، ولا تحظى مضامينها بالقبول وفقا لمبدأ الاختلاف رحمة، بل يتعرض أصحابها للتهجم وللتنكيل من قبل الجمهور ذاته، رغم أن هؤلاء المشتغلين فكريا خارج عباءة الدين مؤمنون بالعقيدة نفسها ومتدينون. أكثر من ذلك، يطالبون بحرق أصحابها وشنقهم والتنكيل بهم وتلفيق تهم متعددة لهم، كالإلحاد والخروج عن الملة، حيث تعتبر هذه التهم سببا كافيا للإدانة على الرغم من أن ما يدلون به مجرد رأي، والرأي في الموروث الديني نفسه وعند العموم لا يفسد للود قضية. طبعا ليس لأي أحد الحق في توجيه اختيارات الناس، ولا نية لنا في تحديد أذواقهم وقناعاتهم، وليس لنا أي تحفظ في قناعات الجمهور ومواقفه من هذا الرأي أو ذاك، لكن ما هو مخالف للعادة في تقديرنا، هذه الموازنة غير العادلة لزوايا النظر، ففي حين يحظى الفكر والأدب والثقافة والفلسفة والعلوم والأجناس الإبداعية بتعدد مشاربها بحظ أقل واهتمام جماهيري لا يرقى إلى طبيعة وأهمية الموضوع الذي يطرحه، نجد الدروس الدينية المكرورة التقليدانية في المقدمة وعلى رأس هرم المتابعات والمشاهدات والمشاركات، وهو ما تمور به المنصات الكوكبية ومواقع التواصل الاجتماعي من إشادة بالدروس والعبر والمرويات التي يقدمها شيوخ ورجال دين من مختلف المرجعيات والايديولوجيات الدينية. ليس لدينا استمارة موجهة، ولم نقم باستطلاع رأي عبر منهجية علمية مدروسة، لكن ما يمكن استنتاجه عبر تحويمة خفيفة على الطوندوس، سواء عبر المكتوب الورقي والحمولات الرقمية أو على معظم مواقع التواصل الاجتماعي، يؤكد هذه الحقيقة، ويشجع على مجرد طرح السؤال عن الأسباب الحقيقية لهذه المفاضلة.