يعتبر كتاب ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" من أهم إنتاجات فيبر تداولا وموضوعا للعمل البحثي. في هذا الكتاب أشار ماكس فيبر بنوع من القدرية المتشائمة إلى أن الرأسمالية الحديثة تحدد بقوة لا تقاوم أسلوب عيش جميع الأفراد الذين يولدون ضمنها؛ وقد حظيت عبارة - Stahlhartes Gehause – التي جاءت في ثنايا الكتاب، بالكثير من الاهتمام والتأويلات من طرف المختصين، فالبعض يرى أن فيبر وظفها في إطار وصفه الرأسمالية بالزنزانة، في حين، وهذا هو التوجه الغالب، اعتبر الكثير من المختصين أن فيبر استلهمها من صورة "قفص الحديد الجليدي" التي أبدعها الشاعر الإنجليزي بونيان. وأيا كان الأمر، فإننا في إطار نفس الحقل الدلالي الذي يسعى إلى وصف الفخ الذي يشكله النظام الرأسمالي بالنسبة للحضارة البشرية، فهو كمصير محتوم وقفص حديد جليدي أَغلَقَت فيه الكثير من المجتمعات الإنسانية نفسها وسلمت أمور تسييره لوحش الاقتصاد السياسي الخالص. فما الذي تغير من أحوال المغاربة داخل القفص في زمن الوباء؟ وهل تشكل تحديات الوباء مناسبة للخلاص أو على الأقل لتحسين الأوضاع داخل قفص الحديد الجليدي الرأسمالي؟ لن يتسع المقال لتناول السؤالين، لكن سنحاول الاقتراب من ذلك من خلال ملامسة أداء الفاعل السياسي في زمن كورونا. دخل المغرب ككل بلدان العالم، بعد أن حل به الوباء، إلى متاهات المجهول، لقد فرض كوفيد-19 على بني البشر اعتبار الوجود على قيد الحياة مغامرة داخل اللايقين، كما يقول "إدغار موران". وحدها قلة من الدول تستطيع بناء جزر لها تسيجها بما يلزم من اليقين ومن القدرة على الصمود وامتصاص الصدمات الناتجة عن التحولات الكبرى التي نتجت عن الوباء. رغم نجاعة الاستراتيجية المغربية لمواجهة كوفيد-19 إلى حدود اليوم، فإن منسوب الهشاشة التي تراكمت خلال العقود الأخيرة، لها تأثير كبير على قدرة البلاد على امتصاص صدمات تداعيات الوباء الاقتصادية منها والاجتماعية، وهذا ما يؤكده تنقيط وترتيب البلاد في مؤشر المرونة العالمي المحين - L'indice de résilience - الذي يقيس قدرة الاقتصاد على مواكبة التغيرات الطارئة على الاقتصاد العالمي وقدرته على امتصاص الصدمات. لقد وجدت النخب السياسية المغربية المدبرة للشأن العام نفسها، أمام واقع زمن كورونا بالغ التعقيد - complexe- كل عناصره وثيقة الترابط من أصغر الجزيئات إلى أعقد أنظمته الاجتماعية والبيئية، مصير أعقدها يتوقف على مصير أقلها شأنا. فلم يعد ممكنا لها تجاهل مصير المشرد ولا آهات المرضى من الفقراء، كما توقفت عن تقديس التوازنات الماكرواقتصادية ولو إلى حين، بل قد تمزق غدا دروس صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إذا تعقدت تداعيات الوباء. ولأن الوباء يمكنه أن ينتقل من حي صفيحي إلى قصور الأغنياء ومن مشرد منبوذ إلى وزير ومن الضيعات الفلاحية إلى سلاسل الإنتاج في المعامل في رمشة عين، اكتشفت النخب السياسية بأن كل ما كانت تعتبره منفصلا من عناصر وأنظمة في المجتمع هي في الحقيقية مرتبطة أشد الارتباط. ربما فهمت الآن، وهي تصارع تداعيات كورونا، بأن بناء القدرة على الصمود وامتصاص الصدمات الناتجة عن التحولات الكبرى التي نتجت عن الوباء والقدرة على التعاطي مع تحديات ما بعد الوباء، في حاجة لعقد اجتماعي جديد لا يترك أحدا على الهامش، عقد يقدم لكل مغربي شروط العيش الكريم، يجعل المغاربة شركاء في الثروة والقيم، حتى يكون لكل واحد منهم جزء من ثروة المغرب يرعاها ويحرص عليها ويخاف من أجلها على البلاد. قبل زمن الوباء، كانت النخب السياسية المدبرة للشأن العام تعتبر قطاع الصحة عبئا ماليا ثقيلا مثله مثل باقي القطاعات الاجتماعية، فسعيا وراء رضا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ضحت بالصحة والتعليم والثقافة، ولم تكن تخجل من الترتيب الكارثي للبلاد بين دول المعمور سواء تعلق الأمر بالخدمات الاجتماعية أو مؤشر التنمية البشرية، وحده مؤشر مناخ الأعمال – doing business- كان يحظى ولا يزال بالاهتمام والرعاية بتقديسها لمبادئ العقيدة النيوليبرالية للمؤسسات المالية الدولية سعيا وراء وهم القطاعات المنتجة للثروة، نسيت النخب السياسية الاستثمار في الإنسان، ولأنها أسيرة عقيدة تسليع كل شيء عجزت عن إنتاج أفكار جديدة تحرر المغرب من المتاهة التي دخلها منذ بداية الثمانينات مع التقويم الهيكلي. يكفي تلك النخب اليوم، والبلاد أمام امتحان كورونا المصيري، أن تتذكر بأن المغرب في بداية الثمانينيات كان أغنى بخمس مرات من الصين الشعبية، وعليها أن تتأمل أحوال كل زملاء المغرب في مدرسة صندوق النقد الدولي كالأرجنتين. الصين تجاوزتنا بسنوات ضوئية في أقل من عقدين لأنها أخذت مسافة من العقيدة النيوليبرالية وأبدعت نموذجا مستقلا، أما الأرجنتين فقد انهار اقتصادها. بظهر من خلال مقترحات بعض السياسيين لمواجهة الأزمة، بأن هناك نوايا للتوجه نحو التأسيس لما يقترب نوعا ما من اقتصاد الحياة - l'économie de la vie - الذي يُعَرفُه الاقتصادي والمفكر الفرنسي"جاك أطالي" بأنه الاستثمار في التعليم والصحة والطاقات المتجددة وكل القطاعات التي تساهم في إنتاج فرص الشغل التي تحترم كرامة الإنسان، قطاعات تنتج المعنى وتساهم في أنسنة الاقتصاد. لكن هل يدرك السياسيون الحاملون لهذه النوايا بأن الأمر يحتاج إلى أن يضحي الجميع من أجل الجميع؟ هل يسمح السياسي بمراجعة العقيدة - la doctrine - التي على أساسها توزع الثروة في البلاد؟ هل يستطيع السياسي تحرير نفسه من وحش الاقتصاد السياسي الخالص القائم على أمور قفص الحديد الجليدي الرأسمالي؟ هل يمكن للسياسي أن يضع الاستثمار في الإنسان على قمة سلم الأولويات ويتوقف عن تسليع كل شيء؟ من دون الإجابة على هذه الأسئلة، يمكن للسياسيين أن يقترحوا ما يشاؤون، وأن يملؤوا الدنيا صخبا وضجيجا، لكنهم حتما لن يصنعوا المستقبل وسيفشلون في تدبير أزمات الحاضر. يعرف السياسيون أكثر من غيرهم، بأن التأسيس لاقتصاد الحياة المنتج للثروة دون التضحية بالإنسان، يتطلب تحرير العقل السياسي والاقتصادي المغربي من وحش "الاقتصاد السياسي الخالص" الذي يتجاهل الطابع المركب للمجتمعات ويختزل الإنسان في بعده الاقتصادي الاستهلاكي، كما وصفه المفكر والاقتصادي المصري سمير أمين. لم يكن للاستراتيجية المغربية لمواجهة كوفيد-19 أن ترى النور ولا أن تلقى الاستحسان والإشادة، لو بقي السياسيون المدبرون للشأن العام حبيسي عقيدة "الاقتصاد السياسي الخالص"، هو قوس تحرري فتح، نتمنى أن لا يغلق بسبب الإملاءات إياها والهشاشة والفقر والجهل المستشري في المجتمع، نتيجة الاختيارات الاقتصادية والسياسية السابقة.