حبا الله الإنسان القدرة على التفكير في المستقبل، ولهذه الخاصية سمي "بالإنسان العاقل"، كما يرى الأنثروبولوجيون. وقد تسارع الاهتمام بالمستقبل مع مطلع القرن العشرين، بإصدار "اكتشاف المستقبل" للكاتب الإنجليزي اتش.جي.ولز. وقد شهدت فترة الأربعينيات والستينيات، وضع الأسس العلمية لهذا العلم. في محاولة لرصد واستشراف مآلات التدافع البشري، والأفق التنموي للإنسان، على يد الكثير من العلماء أمثال: أيزاك آسيفون، آرث كلارك وتوفلر. ومن المغاربة المفكر الموسوعي الدكتور المهدي المنجرة، والدكتور محمد بريش. مقومات النموذج التنموي في فكر المهدي المنجرة: تعددت اهتمامات الدكتور المنجرة، بحيث يصعب حصر اجتهاداته وإبداعاته في مجال بعينه. لكن التنمية أخذت من انشغالاته الشيء الكثير، تنظيرا وممارسة. فقد ساهم من موقع عمله الدولي، أو من خلال عمله في عدة جامعات عبر العالم، في صياغة نماذج تعليمية وتنموية للكثير من الدول، وضعت ثقتها في كفاءته وعبقريته. وهي الآن نبراس لكل أمة تريد إحداث النقلة الحضارية، وخصوصا للعالم الثالث، الذي أفرزت مشاريعه التنموية، "فشلا سياسيا واحتقانا اجتماعيا" (د. المنجرة). لاعتمادها على التقليد ونقل تجارب الآخرين. فالتنمية لا تستورد ولا تستنسخ لأنها مبنية على "تفاعل عوامل داخلية وخارجية وقيم اجتماعية"، التي تختلف من شعب لآخر، ومن ثقافة لأخرى. ومن هنا يأتي نقده للوصفات التنموية التي تنجزها المؤسسات والصناديق الدولية للدول النامية، بغض النظر عن الانتماء الحضاري والثقافي للبلد المعني بها. فما لبث يؤكد على التنمية "ظاهرة داخلية ذات علاقة بالمجهود الذاتي لأبناء المجتمع". والتي تنهض على الأسس التالية: أ- الرؤية: يرجع الدكتور المنجرة كل الأزمات التي نعيشها، إلى غياب الرؤية. وهي ذلك المخطط الذي يشمل التطلعات والطموحات، التي يشارك في صياغتها كل أفراد الشعب من خلال مؤسساته التمثيلية، وهيئات المجتمع المدني. تحدد مواصفات المستقبل وكيفية الوصول إليه، بتخطيط يتسم بالواقعية والعقلانية. وحسب المهدي، فإن مثل هذه الرؤية توفرت فقط لدى الحركة الوطنية قبل الاستقلال، حيث كان الاستقلال هدف الجميع، تعبأت له كل القوى. وكل التغيرات التي حدثت في حياة البشرية، كانت "تصدر عن رؤية استراتيجية واضحة عن المستقبل" (المنجرة). فاختلافنا حول معالم المشروع المجتمعي المنشود، كان عاملا حاسما في إخفاق النموذج التنموي الذي هو اليوم محل نقاش. ب- الديمقراطية وحقوق الإنسان: إن تمكين المواطن من المشاركة والتعبير عن حاجاته وطموحاته، نابع من تقدير واحترام لكيانه الإنساني، "فلا تنمية بدون تقدير قيمة الإنسان" (عبد الحق المريني). هذا التقدير والاحترام الذي يكمن في الإصغاء لرأيه، ومنحه فرصة التعبير عن أحلامه وآماله. فكثير هم الذين يربطون بين التنمية والحقوق السياسية والإنسانية، وفصل السلطات والحق في المعلومة وضمان الشفافية. لكن تجربة نمور آسيا والصين مؤخرا، جعلت البعض يؤمن بأهمية الديكتاتورية ودورها الإيجابي في تسريع وتيرة التنمية. فأولوية التنمية على الديمقراطية، محط سجال دائم، لكن الواقع والتجربة يؤكد، على أن الديمقراطيات المتماسكة، تخلق الثروة، وما تجربة الهند وكوستاريكا عنا ببعيد. "الديمقراطية كعملية والتنمية كمحصلة"، بينهما ارتباطات وعلاقات سببية. فما التنمية في نهاية المطاف إلا تلبية "لحاجات المجتمع المعبر عنها ديمقراطيا" (د. المنجرة). ج- العلم: يعرف د. المنجرة التنمية، "بأنها العلم حينما يصبح ثقافة". فالمعرفة والبحث العلمي والتكنولوجيا... هي مفاتيح التنمية، والطريق السيار لكسب رهانها. والحديث عن الثقافة هو حديث عن القيم التي انشغل بها د. المنجرة، بحيث يرجع فشل المشاريع التنموية التي تبنتها المؤسسات الدولية لصالح الدول النامية، البعيدة عن منظومة القيم المحلية، التي يغترب فيها أحيانا العلم والعلماء، مما يجعل التفكير في نشر التعليم وتقدير أهله أولى المهام التنموية. ونفس المعنى يؤكد عليه المدير السابق لليونسكو: روني ماهو في قوله: "التنمية تتحقق حين يصير العلم جزءا من الحضارة، أو بمعنى آخر تكون التنمية حين يكون للعلم مكان داخل القيم التي تسير المجتمع". فالنموذج التنموي المبني على رأس المال والمواد الخام واليد العاملة، نموذج متجاوز، في ظل اقتصاديات المعرفة. إن الرؤية الهادفة، تنطلق من التربية والتعليم، فالاهتمام ببناء الإنسان يسبق بناء الجدران في فكر المهدي، الإنسان بانتمائه الحضاري والثقافي، المؤطرة بمنظومة قيمية غير خاضعة لمنطق الربح والخسارة، كما تروج لذلك ثقافة العولمة التي تصدى لها بشراسة. من استشراف المستقبل إلى صناعته: إن المشاريع التنموية، هي مشاريع مخطط لها وفق رؤية وبرنامج واستراتيجية. فكما يقال: "من لا يخطط للنجاح، فهو يخطط للفشل». فالماضي لا يمكن تغييره، والحاضر غير موجود أو لحظة سريعة الانفلات وتحولها إلى ماضي. أما المستقبل، فهو مجال الفعل البشري وصناعته بالشكل الذي يريده. وهذا لا يعني إلغاء للذاكرة، فهي "هي إحدى القيم التي تعطي للزمن انسجامه واكتماله، وتتفاعل بين ماضي يتجدد، وحاضر عابر ومستقبل مفتوح إلى الأبد، إننا لا نقوم بطي الصفحات بل نعيد قراءتها بانتظام" (د. المنجرة)، ولهذه المكانة المتميزة للذاكرة في فكره، جعل الاحتفال برموزها، خاتمة عقد كتابه النفيس: "قيمة القيم"، باعتبارها "قيمة للبقاء". فهي مؤشر على شكل المستقبل الذي يمكن تغييره، "من خلال تحليل حقب التاريخ السابقة" (محمد بريش). بإدارة هادفة، كالتي تعتمدها الدراسات المستقبلية القائلة: "أريد ان أصل إلى كذا، أرجع إلى الواقع وأغيره من اليوم" (د. المنجرة)، ولطالما استشهد في كتاباته وحواراته، بقرار جون كينيدي عندما أدرك تفوق السوفيات في علوم الفضاء. فاتخذ قرارا لا علاقة له بالواقع العلمي الأمريكي آنذاك، وقال إن أمريكا ستصل إلى القمر بعد عشر سنوات، فأعد العدة لذلك، وتحقق الحلم. فالإنسان قادر على اختراع المستقبل ولو في حدود معينة، و"هذه القدرة هي التي أوجدت الإنسان بالصورة التي هو عليها الآن" (أليس جابور). وهذا لا يتنافى مع قيمنا الدينية التي يجعلها د. المنجرة في صلب النموذج التنموي، حيث يقول: "إن الإسلام كدين يمنعنا عن الرجم بالغيب، ولكن لا يمنعنا عن التطلع إلى المستقبل. إن الغيب مفهوم ديني لا يعلمه إلا الله، ولكن التفكير في المستقبل أمر مشروع، بل وهبنا الله الوسائل لكي نبني المجتمع وفق الصورة التي نريد وبما يتماشى ومنطق التقدم". هذا المنطق هو نفسه، الذي يكتسب من دروس الرياضيات والمقاصد وعلم الأصول، الذي حرر العقل من المحسوسات إلى المعاني والمجردات، وهي التي ألهمت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: "أفر من قدر إلى قدر خير منه". الخاتمة: عاشت دول العالم الثالث، على نقل واستنساخ الأفكار والتصورات، كما تنقل المساعدات العينية الغذائية والطبية والتكنولوجية المحدودة... لكن القيم ظلت المحور الغائب، في جل المشاريع التنموية المنصوح بها، والتي تختلف من بيئة ثقافية لأخرى، والذي فرض "تصورا جامدا للتنمية" أعاق إنجازها. كما تميز تصور د. المنجرة التنموي بالشمولية، واستحضار الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية... داخل البلد وبينه وبين الدول المجاورة، "حيث نبحث هنا عن انسجام سياسي، وهناك عن انسجام ثقافي، وفي منطقة أخرى عن اندماج اقتصادي. هذا إن لم يتم البحث عن الثلاثة في الوقت نفسه" (د. المنجرة).