أسلوب متيع. "فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله" صدق الله العظيم. وفي محكمه يرشدنا سبحانه وتعالى إلى أيسر السبل لنكون على صلة به من أي موقع وفي أية لحظة. فالتواصل مع الحق يتم مباشرة وبدون أية شروط ومجانا من دون الحاجة إلى أية تعبئة. لك أن تعبد الله في الصلاة ولك أن تعبده في الشارع بإماطة الأذى عن الطريق، ولك أن تعبده في العمل الذي تؤديه وفي الأمانة الملقاة عليك وبالإحسان إلى الناس. ففي هذه الأيام العصيبة لما أجبرنا على أن لا نتردد على المساجد فليس ذلك من قلة إيماننا وإنما من شدة قناعتنا بأننا قادرون على أن نلتقي الله في أي مكان آخر. وكذلك كان الأمر. وكل دور العبادة سواء من مساجد ومعابد وكنائس، فهي عبارة عن أماكن يؤم إليها المؤمنون وأتباع الديانات السماوية، يذكر فيها اسم الله، ويرفع فيها الأذان وتقرع فيها الأجراس إيذانا بقرب موعد الصلوات. ولأن المكان له قدسيته سواء كان مسجدا أو كنيسة، فإن سيدنا عمر بن الخطاب كان خير من أعطى لهذا المفهوم بعدا دينيا متزنا يقوم على احترام دور العبادات والاعتراف بها وبخصوصياتها. فلما جاء رضي الله عنه فاتحا للقدس وزار كنيسة القيامة التي لا تبعد عن المسجد الأقصى إلا ببضع مئات الأمتار، رفع أذان الظهر وهو بداخل الكنيسة، فدعاه الكاردينال إلى أن يصلي في عين المكان. فتوضأ واعتذر للكاردينال عن عدم الصلاة داخل الكنيسة، وأبلغه بأنه لا يريد ان يخلق سابقة يفهمها المسلمون من بعده فهما سيئا ويحولون الكنائس إلى مساجد ويحرمون المومنين من المسيحيين من دور عباداتهم. أين نحن من هذا الإيمان العميق ومن هذا الدرس الديني الذي أوحى لنا به سيدنا عمر بن الخطاب. وفي هذا الصدد يحق لنا أن نتساءل هل السيد رجب أردوغان ينصب اليوم نفسه واحدا من الخلفاء الراشدين تأخر به زمانه إلى القرن الواحد العشرين أو أنه جاء ليصحح أخطاء عمر بن الخطاب حينما سمح لنفسه في هذه الأيام بتحويل كنيسة "آيا صوفيا" إلى مسجد في استفزاز سافر لمشاعر أتباع الديانة المسيحية. إنها نزعة شوفينية في عبادة الله غزت السيد أردوغان بنرجسيته كما أراد أن يراها مسجدا أحب من أحب وكره من كره. وادعى أن ذلك يدخل في سيادة تركيا ونسي أن الوطن للجميع، وأن الدين هو لأتباعه بغض النظر عن جنسياتهم. فكنيسة القيامة هي محج لكل المومنين من مختلف بقاع العالم وكذلك الكعبة المشرفة يأتيها الناس من كل فج عميق فلا يمكن منعهم بحجة أنها خاضعة لسيادة المملكة العربية السعودية. دور العبادات والمقدسات فوق كل الاعتبارات الوطنية. تاريخيا كنيسة "آيا صوفيا" ظلت كاتدرائية لمدة ألف عام ومقرا للكنيسة الأرثودوكسية الشرقية لتسعة قرون. ففي عام 532م أمر الإمبراطور البيزنطي "جستنيان الأول" ببناء الكنيسة في القسطنطينية، إسطنبول حاليا، على أنقاض كنيسة أخرى تعرضت للبناء والهدم أكثر من مرة. واستغرق بناؤها أكثر من خمس سنوات وكلمة "آيا صوفيا معناها باليونانية "الحكمة الإلهية". وظلت هذه الكنيسة أضخم كاتدرائية مسيحية في العالم إلى غاية بناء كاتدرائية اشبيلية عام 1520 م، وغدت واحدة من أبرز المعالم التاريخية حول العالم على الإطلاق وصنفتها اليونيسكو واحدة من أهم التراث العالمي يؤمها ما يزيد عن 4 ملايين زائر سنويا من أتباع الديانة المسيحية الأورثودوكسية من مختلف أنحاء المعمور. والواقع أن هذا القرار الذي اتخذه الرئيس التركي أردوغان ينطوي على مغالطات دينية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، كما ينطوي على مغالطات سياسية خطيرة تحمل مخاطر على مقدسات إسلامية أخرى. فإسطنبول لا تنقصها مساجد حتى يسارع أردوغان إلى ارتكاب هذه الحماقة. فالمدينة اكتظت بالمساجد عن آخرها، إن لم تكن المدينة الأولى عالميا من حيث دور العبادة. وليس هذا الذي يجب أن يعنى به هذا الرجل أو يختبأ من وراءه للتستر عن عجزه في حماية مقدسات إسلامية أخرى وهي أولى من أن يظهر "حنة يده" في كنيسة ما. فالرجل حاول غير ما مرة أن يوهمنا بأنه صلاح الدين الأيوبي في زمانه دفاعا عن المسجد الأقصى حيث فشل فشلا ذريعا. لقد قال لنا إن القدس خط أحمر فيما لو نقلت السفارة الأمريكية إلى هنالك. وبالفعل نقلت السفارة والخط الأحمر الأردوغاني تحول إلى خط أبيض مسالم. هذه هي المعركة الحقيقية التي يجب أن يقرن فيها قوله بفعله. وما عدا دون ذلك، يبقى السيد أردوغان واحدا من أولئك الذين سبقوه ليلعب الدور الطلائعي في سياسة الوهم التي يضع لها الغرب رجلا في كل مرحلة من مراحل الصراع يلهي الناس ويلتهون به على أنه زعيم وما هو بذلك. كما كان من قبله جمال عبد الناصر وأسامة بن لادن وصدام حسين ومعمر القذافي واليوم يأتي الدور على رجب طيب أردوغان ليكمل المشوار في الحدود المرسومة له. وأي زعيم هذا الذي يزج بإخوانه في الدين في حروب تدور رحاها على أرض الإسلام سواء في سوريا أو ليبيا. إنها لعبة المصالح التي ينهجها السيد أردوغان باسم الدين، وهي لا تختلف في أسبابها ونتائجها عن سياسة الغرب الذي نصفه بالكافر. فما صلة الدين بضغط أردوغان على تونس لتمكينه من قاعدة عسكرية في الأراضي التونسية. ولعل ظلم ذوي القربى أشد مضاضة. كما أن خطوة الرئيس التركي بتحويل الكنيسة إلى المسجد تعد سابقة خطيرة وعبئا ثقيلا على كاهل العالم الإسلامي. واليوم وهو يسمح لنفسه بذلك ويرفض مساءلته معتقدا أن ما فعله حق سيادي. ولكن أليس من حق غيره أن يسارع إلى خطوة مماثلة ضد المقدسات الإسلامية. فغدا كيف يحق للسيد أردوغان أن يعترض على ارتكاب إسرائيل حماقة شبيهة بمآل كنيسة "آيا صوفيا" وتحول المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، إلى معبد يهودي. وعندها سيكون الزعيم أردوغان هو المسؤول على تهويد القدس وهو الذي أعطى الذريعة للكيان الإسرائيلي في أن يحدو حدوه. إن هذا الرجل يلعب أوراقا وسخة وملوثة باسم الدفاع عن الدين وترتيل القرآن ورفع الآذان في مواقع التواصل الاجتماعي، فلماذا هذه السلوكيات ولماذا هذا التظاهر بالدين؟ ألا يفهم من ذلك أن الدين بات مطية لخدمة السياسة، وهي ليست المرة الأولى في التاريخ ولن تكون كذلك هي الأخيرة. خطوات من هذا القبيل لا تذر ربحا أو إضافة نوعية على من اتخذها سوى إدخال العالم الإسلامي في صراع مجاني مع العالم المسيحي. وغضبة الفاتيكان على ما أقدم عليه الرئيس التركي دليل على عدم الرضى الذي قد يترجم من قبل الغرب في محطات قادمة ضد كل ما هو إسلامي. فبعد هذا الذي جرى هل يستطيع أردوغان أن يضمن استمرار الجالية التركية بألمانيا مثلا في أداء شعائرها الدينية فيما لو أقدمت السلطات الألمانية على إغلاق المساجد التي سمحت بها للأتراك. وكيف يحق للسيد أردوغان غدا أن يواجه قرارات من هذا القبيل إذا اتخذت في الفضاء الأوروبي. أوليس من حق هذه الدول هي الأخرى أن تتذرع بحجة السيادة كما يدعي الرئيس التركي. فهل حلال عليه وحرام على غيره. ولسنا في واقع الأمر مستعدين لتفتح علينا جبهات أخرى من قبيل الحروب الدينية والطائفية. كفى هذا الذي نحن فيه، وزمان العنتريات قد ولى. وليعلم أردوغان أن كنيسة "آيا صوفيا" أقدم من دولة تركيا لكي لا يحاول رئيسها أن يقنعنا بأنها إرث تاريخي للدولة العثمانية.