في مثل هذه الأيام من صيف سنة 1985، أي قبل 35 سنة، زار لأول مرة رئيس الكنيسة الكاثوليكية المملكة المغربية، وألقى خطاباً باللغة الفرنسية أمام شباب مُسلمين في أول حدث في تاريخ البابوية آنذاك. يتعلق الأمر بالبابا البولوني يُوحنا بولس الثاني، الذي حلّ بمدينة الدارالبيضاء صيف سنة 1985 بدعوة من الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان قد زاره في مقر الفاتيكان سنة 1980 سنوات قبل ذلك ووجّه إليه دعوة رسمية لزيارة المملكة. لقد كانت زيارة البابا إلى المغرب تاريخيةً بكل المقاييس؛ فحين وصل إلى مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء وجد في استقباله الحسن الثاني، وحين نزوله من الطائرة قبّل الأرض تحيةً وإجلالاً. كما وجد في استقباله حُشوداً كبيرةً من المغاربة على طول المسافة التي قطعها الموكب. وخلال هذه الزيارة (19 و20 غشت 1985)، ألقى البابا وبجانبه الملك خطاباً تاريخياً عن الإسلام والمسيحية بالمجمع الرياضي محمد الخامس بالدارالبيضاء أمام حوالي مائة ألف من الشباب المسلمين. ودعا، في هذا اللقاء غير المسبوق، المسيحيين والمسلمين إلى تعارف أفضل من أجل بناء السلام ومد جُسور الحوار. وقال البابا في خطابه الشهير أمام الشباب المغربي: "أقابل في العادة شباباً كاثوليك؛ لكن هذه هي المرة الأولى التي أكون فيها مع شباب مسلمين"، كما أكد أن "المسيحيين والمسلمين لديهم الكثير من الأشياء المشتركة". وأضاف البابا قائلاً: "نحن نعيش في نفس العالم المتسم بالعديد من علامات الأمل، لكن أيضاً بعلامات القلق.. إن إبراهيم بالنسبة إلينا هو نفس نموذج الإيمان بالله والخضوع لإرادته، نحن نؤمن بنفس الإله، الإله الواحد، الإله الحي، الإله الذي خلق العوالم كلها". وأقرّ البابا في خطابه أيضاً بأن "المسيحيين والمسلمين أساؤوا فهم بعضهم البعض، وكانوا مُتعارضين في السابق حتى أُنهكوا بسبب الجدال والحروب"، وزاد مُؤكداً: "أعتقد أن الله يدعونا إلى تغيير أساليبنا القديمة، علينا أن نحترم بعضنا البعض وأن نُحفز بعضنا البعض على أعمال الخير في سبيل الله". يوحنا شخصية فذة في كتاب "ذاكرة ملك"، أعطى الملك الراحل الحسن الثاني انطباعه حول البابا يوحنا بولس الثاني بعد لقائه أكثر من مرة، حيث قال إنه "رجل يتمتع بشخصية فذة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ ذلك أنه يؤثر حقاً في الآخرين". وأشار الملك، في الكتاب، أيضاً إلى أن "البابا يبدو في الوقت ذاته مثالياً وواقعياً، إذ هو مزيج من الروحية والمادية، إننا لا نراه وقد نزل من الطائرة ووطئت قدماه أرضاً إلا وقبّلها". وأضاف الملك مُتسائلاً: "هل هي حركة لا إرادية لمواطن بولوني رزحت بلاده تحت وطأة الاحتلال مرات عديدة على مر القرون؟، أو هل يريد أن يستدل بعمله هذا على أن الله موجود في كل مكان، وأن الأرض هي قبل كل شيء وحيث كانت أرض الله؟ لا أدري فهذا الخليط الغريب وهذه الازدواجية يَظهران كذلك في طريقة حديثه، لقد تحدثنا باللغة الفرنسية، وقد كان يركب جمُله بدون عناء". ويكشف الملك في كتابه سالف الذكر أيضاً أن يوحنا بولس الثاني ليس كسائر البابوات، فقد كان من قبل نقابياً وممثلاً مسرحياً، بل وخطب للزواج، فهو بذلك مغاير للآخرين. كما أشار إلى أنه كان يناضل من أجل الدين المسيحي؛ لكن هدفه في مرحلة أولى هو استقطاب الملحدين. "زعيم الضالين" مع "زعيم الكفار" وفي الكتاب نفسه، سرد الملك الراحل الحسن الثاني بعض الأمور التي وقعت على هامش زيارة البابا يوحنا إلى المغرب، حيث قال إن الأسقف المكلف بحمايته أخبر المسؤولين أن البروتوكول يَقتضي أن يدخل البابا وحده إلى رحاب المركب الرياضي محمد الخامس بالدارالبيضاء حيث سيُلقي خطاباً، وهو أمر يجري به العمل في كافة البلدان التي يزورها. لكن هذا الطلب وضع مصالح التشريفات والأمن في المغرب في وضع حرج؛ وهو ما دفع بالمسؤولين المغاربة إلى استشارة الملك في الأمر، وقرر إثر ذلك استقبال الأسقف، وقال له الملك: "لا يُوجد سكان مغاربة مسيحيون، إذن أصغوا جيداً لما سأقوله لكم، فنحن نمثل بالنسبة إليكم أناساً ضالين، بينما نحن نعتبركم كفاراً، فكيف تريدون أن يدعو زعيم الضالين السكان إلى الخروج لتحية زعيم الكفار، هذا أمر مستحيل". بعد هذا التأكيد، استفسر الأسقف حول ما إذا كان لدى الملك سيارة مصفحة، فأجابه: "لا، أبداً أنا لا أركب سيارة مُصفحة"، وفي الأخير تم التوصل إلى حل وسط، حيث امتطى الملك والبابا سيارتين من طراز مرسيدس 600 سقفاهما قَابلان للانفتاح تسيران جنباً إلى جانب محفوفتان بفرق من رجال الأمن على دراجات نارية. وقال الملك في كتابه أيضاً إن "المغاربة خصصوا للبابا استقبالاً يليق بمقامه حين احتشد مليونا نفر على جنبات الطريق الذي مر منه الكوكب الرسمي انطلاقاً من القصر الملكي بالدارالبيضاء إلى ملعب محمد الخامس". بعد الزيارة التاريخية للبابا إلى المغرب، كشف الملك أن يوحنا الثاني الملك أخبره أن المواطنين المغاربة يفهمون جيداً اللغة الفرنسية وتتبعوا خطابه بدقة، وصفقوا له طويلاً، وأضاف الملك: "هكذا تمكّن زعيم الضالين من استقبال زعيم الكافرين وشرّفه أعظم تشريف".