لاحظ الكاتب مصطفى الأنصاري أن لهجة بيانات البوليساريو، في بياناتها الأخيرة خصوصا، كانت طافحة بالتنديد والوعيد ومصطلحات الرجعية والقومية والاشتراكية؛ "بل حتى شعارات تنظيم القاعدة وجماعات العنف الجهادية التي اعتادت في خطاباتها التضخيم من ذاتها وتجنيد الله والملائكة والرسل وغزوات الجاهلية في معارك لا تعدو أن تكون سياسية محضة". ويوضح الكاتب، في محاولة إجابته عن سؤال "ماذا تعني بصمات "القاعدة" في بيانات "البوليساريو"؟"، أنه، لو أردنا أن نعرف ماذا يعني ذلك، "فإن كل ما علينا هو استعراض بيانات أخرى لتنظيم القاعدة أو تنظيم "داعش"، لنجد اللغة واحدة، وإن كان العدو بالنسبة إلى تلك التنظيمات هو كل العالم بينما البوليساريو توجه أصابعها إلى المغرب وحسب". في هذا المقال، يستعرض الكاتب، المختص في شؤون الخليج والمغرب العربي، مزيدا من المؤشرات التي تظهر التشابه بين لهجة "البوليساريو" ولهجة "القاعدة". وهذا نص المقال: فجّرت الأحداث في معبر "الكركرات" على الحدود بين المغرب وموريتانيا عدداً من المفارقات والجوانب الكامنة خلف استمرار النزاع بين حكومة الرباط وجبهة "البوليساريو" في "تندوف" منذ 45 عاماً، تخللتها صنوف الحرب في العتاد والسياسة والأفكار. فبينما وضعت الحرب العسكرية أوزارها منذ عام 91 من القرن الماضي، انطلقت بعدها مباشرة الحرب السياسية التي لم تتوقف حتى اليوم، وهي التي دارت معاركها ليس على أرض الصحراء ومدنها وقراها ومعابرها وحسب، وإنما أيضاً بين القارات والمنابر والتكتلات في مختلف دول العالم. لكن هذه المعركة السياسية كان لها خطاب وآليات وتقاليد وتحركات مختلفة بين الجانبين. ومع أن جولة "الكركرات" الأخيرة كانت قصيرة في التناول الإعلامي، إلا أنها على الرغم من ذلك أظهرت من حيث تدري "البوليساريو" أو لا تدري أحد الأسباب الكبرى (الخفية ربما) لطول الصراع، ففي الوقت الذي كان المغرب يجري اتصالاته ويحشد التأييد العربي والإفريقي لمواقفه ويبث الصور التنموية التي قال إنه أحدثها في مدن الصحراء المتنازع عليها مثل العيون والداخلة والسمارة وبوجدور ويحاول طمأنة العالم بمحدودية التدخل، كانت لهجة بيانات "البوليساريو" طافحة بالتنديد والوعيد ومصطلحات الرجعية والقومية والاشتراكية؛ بل حتى شعارات تنظيم القاعدة وجماعات العنف الجهادية التي اعتادت في خطاباتها التضخيم من ذاتها وتجنيد الله والملائكة والرسل وغزوات الجاهلية في معارك لا تعدو أن تكون سياسية محضة. آيات القرآن ومعلقات الشعر الجاهلي وحتى لا يكون ذلك نوعاً من التجني في حق الجبهة، فما علينا إلا استعراض عدد من البيانات التي أصدرتها في مناسبة التصعيد الأخيرة بينها والمغرب، إذ سنجد لغتها فيها غنية عن مزيد من التفسير. يقول البيان رقم 1 على وكالة الأنباء الصحراوية "بسم الله الرحمن الرحيم. قال تعالى "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون". صدق الله العظيم. تلبية للواجب الوطني ودفاعاً عن حرمة الوطن والمواطن وتنفيذاً لقرارات وقيادة جيش التحرير الشعبي الصحراوي، قامت مفارز من وحداتنا المرابطة في "ساحة الوغى" وبميدان المعارك بقصاف مركز على عدة مواقع من تخندقات القوات المغربية التي أقحمت في أتون حرب جائرة ضد الشعب الصحراوي لما يربو على 45 سنة"، إلى أن قال: "جدير بالذكر أن هذا القصف أحدث أضراراً في الأرواح والمعدات ورعباً في نفوس الجنود المغاربة، كما اخترقت دشم وملاجئ العدو. كل الوطن أو الشهادة"، ثم كذلك استهلال البيان الثاني الذي يليه. يمكن أن يقال إن اللهجة هنا كانت في لحظات الصدمة والغضب الأولى، لكن حتى بعد أن عادت أجواء التهدئة، كان بلاغ الجبهة "السابع" مثالاً آخر، استدعى "عمرو بن كلثوم" (شاعر جاهلي قبل عصر الإسلام)، إذ استفتحت "البوليساريو" بيانها ذاك بقول ابن كلثوم: "ورثنا المجد قد علمت معد// نطاعن دونه حتى يبينا. بشيبان يرون القتل مجداً//وشيب في الحروب مجربينا"، وقد كان عنوانه منسجماً معه في الدراما التصويرية، وهو يطلق العنان قائلاً: "وحدات جيش التحرير الشعبي الصحراوي تواصل دك معاقل الغزاة على طول جدار الذل والعار"، وكذلك ختامه عميق المغزى الذي يضيف "بالبندقية ننال الحرية". هل هي أوهام التيارات الجهادية نفسها؟ ولو أردنا أن نعرف ماذا يعني ذلك، فإن كلما علينا هو استعراض بيانات أخرى لتنظيم القاعدة أو تنظيم "داعش" لنجد اللغة واحدة، وإن كان العدو بالنسبة إلى تلك التنظيمات هو كل العالم بينما "البوليساريو" توجه أصابعها إلى المغرب وحسب؛ بيد أن هذه النقطة حتى هي الأخرى لم تعد استثناءً في كل البيانات، إذ نجد مثلاً تصريحات لمن يسمى وزير الإعلام في "البوليساريو" يندد فيها بالمجتمع الدولي والأممالمتحدة، كما لو أنه يوشك أن يعلن عليها الحرب العسكرية كما فعل في حق المغرب. هذا الخطاب، الذي أشرنا فقط إلى جانب يسير منه، له أكثر من دلالة ومغزى في الصراع الدائر هنالك؛ فإذا كنا لا نعرف الكثير عن "البوليساريو" مثلما نعرف عن التنظيمات الإرهابية العابرة للقارات، فإن الذي اشتهرت به الأخيرة اتسام جميع تاريخها بعدم الواقعية السياسية، والبعد عن الحكمة حتى في تحقيق ما تعده أهدافاً سامية لها، إلى درجة أذهلت حتى بعض قياداتها الشهيرة في لحظة غير معتادة من التعقل. أقرب الأمثلة في هذا السياق مراسلات أسامة بن لادن، التي كشفت عنها السلطات الأمريكية 2012، بعد عام من مقتله، وفيها نجد أن زعيم القاعدة آنذاك يوبخ مندوبه في اليمن ناصر الوحيشي عندما قال له "إن أردتم صنعاء يوماً من الدهر فهو اليوم"، فكانت إجابة بن لادن عامله في تلك الناحية، ويجيبه في الوثيقة 16، قائلاً: "بخصوص قولكم إن أردتم صنعاء يوماً من الدهر فهو اليوم، فنحن نريدها لإقامة شرع الله فيها، إذا كان الراجح أننا قادرون على المحافظة عليها؛ فالعدو الأكبر على رغم استنزافه وإضعافه عسكرياً واقتصادياً قبل الحادي عشر وبعده، إلا أنه ما زال يمتلك من المعطيات ما يمكنه من إسقاط أي دولة نقيمها على رغم عجزه عن المحافظة على استقرار تلك الدول (...) ولكم عبرة في إسقاط دولة طالبان".. إلخ. ثم رأينا في بغداد والموصل كيف ذهب الوهم بتنظيم "داعش" بعيداً حين ظن أنه ب"الذبح والتهويل والحرق والسبي ولبس السواد" يمكنه أن يفرض سيطرته على واحدة من أهم المناطق الإستراتيجية في العالم، لاغياً الحدود الدولية بين العراقوسوريا، ومعلناً ما يسميه "الخلافة"، لكأن أبا بكر البغدادي هارون الرشيد أو أبا جعفر المنصور. لكن نهاية الوهم دائماً كانت ساحقة وموجعة، وقصة البغدادي وخلافته المزعومة، ومصير عناصره وأسرهم في مخيم "الهول" شمال سوريا، صارت مثلاً لواحدة من المآسي المُرة التي تنجم من التطرف والإرهاب وأوهامه الكبيرة. لا يتمنى أحد، سواء في المغرب أو المجتمع الدولي والإقليمي، أن تنتهي مصائر الأسر والعائلات وحتى جند "البوليساريو" إلى نهاية مماثلة؛ فهم جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي مهما ضل أبناؤه الطريق نحو اليسار أو اليمين يتمنى أن يعودوا إلى رشدهم، إلا أن المسار على حافة الهاوية ينذر بالوقوع فيها ذات يوم. وهي مخاوف تتجاوز الإقليم إلى أوروبا التي أكد دبلوماسي غربي فيها خشيته من "أن تضعف قيادة بوليساريو. الشباب لا يتمتعون بالصبر، ويمكن أن يتجهوا نحو التطرف، وهذا ما لا يريده أحد"، وفقاً لما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. الرهانات الخاسرة بين العيون وتندوف لا يعني هذا أن حكومة الرباط نموذج يحتذى دائماً في تطبيق النظريات التنموية وحفظ حقوق الإنسان، إن كان في الصحراء أو بقية المدن في الشمال والوسط، إلا أنها في جولة "الكركرات" على الأقل، بدلاً من تداول خطابات عنترية كالسابقة وشعارات السحق والشهادة والفداء، كانت وسائل إعلامها ومنصات حلفائها تتداول صوراً للبناء والإعمار والجامعات والمستشفيات وكثير مما يبهج في المدن الصحراوية، التي فرضت عليها سيطرتها في واحدة من مفارقات أوجه الصراع في الأفكار والنماذج بين المغرب والجبهة؛ فالأخيرة تشهر السلاح على ضعفها وقلة إمكاناتها، والأولى تبرز نموذجها التنموي في الميادين والساحات وتجنح إلى السلم على الرغم من أنها الأقوى عتاداً وتجهيزاً وحلفاء. كل ذلك يعني، في نهاية المطاف، بالنسبة إلى المغرب، أنه لحسن حظه، فإن عدوه قليل الحيلة، ويسلك رهانات ثبت تاريخياً سقوطها وفشلها، ولكن في الوقت نفسه من الناحية السلبية يعني أن الرباط قُدّر لها التعامل مع شريك أو غريم لا يمكن الاستناد إلى المنطق في التفاوض معه أو مجابهته، لأنه بطبيعية الحال يفتقدها. في الجهة المقابلة، يمكن "البوليساريو" أن تطمئن (إن شاءت) بأنها حين تعود إلى رشدها ولو بعد حين، ستجد أن 80 في المائة من الأرض التي تطالب بها وتسكنها عشيرتها وقوميتها قد أصبحت مدناً متكاملة الأركان، ولم تعد أعجاز نخل خاوية كما تركها المستعمر. صحيح أنها ليست مثل باريس أو بروكسيل أو نيويورك؛ ولكنها تجاوزت "تندوف"، حيث تقيم الجبهة بآلاف الأميال. أما الجانب الذي لسوء حظ الجبهة لن يكون في صالحها، فهو كونها طال الزمن أو قصر ستسقط رهاناتها، طالما بقيت على هذا الخطاب والنهج والبعد عن المقاربة الواقعية، فالتاريخ والمنطق وتجارب الأمم تقول إن التنظيمات التي ظلت تستثمر في ترديد أسطوانة العنتريات والمزايدات الشعبوية لم تتجاوز مواقعها، وانتهت في مهدها، فيما تطورت الدول التي تحتكم إلى القانون والمنطق والواقعية السياسية. وليس ببعيد عنا خطباء القوميات العربية، أرباب "اللاءات" والشعارات البراقة من عبد الناصر إلى صدام والقذافي وغيرهم، إذ كانت عاقبة أمرهم خسراً؛ بينما ظلت الملكيات، التي كانوا يسمونها "رجعية"، هي اليوم في المنطقة العربية الأكثر تقدماً في المجالات كافة. منطق "فايف جي" وأعرابية معاوية وهكذا، فإن الصراع والنزاع، والحال كما ذكر، لا يبدو أنه يوشك على نهايته على الرغم من العقود التي مرت عليه. وتبعاً لذلك، فإن المسؤولية ليست فقط على الجانب الصحراوي الذي تمثله "البوليساريو" أو المغربي التي تمثله الرباط؛ ولكن على الشباب والشابات من سكان الصحراء، الذين أصبح مستقبلهم رهينة أهواء جبهة لا يبدو أنها قريبة من النضج حتى الآن، فهم الطرف الثالث الذي ينبغي أن يقول كلمته ليستعيد زمام المبادرة ويقرر مستقبله بيده قبل أن يفوت الأوان، فكثير من الخيارات التي على الطاولة اليوم، مثل الحكم الذاتي لن تظل إلى ما لا نهاية. وإذا كان لسان حال رجال "البوليساريو" يعكس حال الأعرابية مع أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، فإن خيارات جيل G5مختلفة. وكانت كتب الأدب والسير تروي أن ميسون بنت بحدل النجدية ذات جمال، أُعجب بها معاوية وتزوجها، وهيأ لها قصراً مُشرفاً على الغوطة في دمشق، فلما سمعت تجاوب الطير في أوكارها، وشمت نسيم الأزهار، وروائح الرياحين والنوار تذكرت نجداً وحنت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها فبكت وتنهدت، فقالت لها إحدى وصيفاتها ما يُبكيك وأنت في ملك يُضاهي ملك بلقيس؟ أجابت بحدل حينها بأبيات شعرية، سرت بها الركبان، تقول: لَبَيتٌ تخفق الأرياح فيه// أحب إلي من قصر مُنيفِ ولُبسُ عَباءَة وتقر عيني// أحب إلي من لبس الشُفوفِ وأكلُ كُسَيرَة من كسر بيتي// أحب إلي من أكل الرغيفِ وخَرق من بني عمي نحيف// أحب إلي من علج عَلوفِ خُشونَة عِيشتي في البدو أشهى// إلى نفسي من العيش الظريفِ