قال أيقونة الثوّار المُتمرّدين الإنسان الأرجنتينيّ – الكوبيّ – العالميّ في منتصف القرن العشرين الفارط إيرنيستو تشي غيفارا: "لا يهمّني أين ومتىَ سأموت... بقدر ما يهمّني أن يبقىَ الوطن...!" أيّهما يصنع الآخر الوطن أم الإنسان؟ مقولة مقتضبة بليغة جاءت على لسان صديق عزيز، وأديبٍ أريب آخر في شكل تساؤلٍ مشاكسٍ، واستفسارٍ مراوغٍ، ولكنه عميق الغور.. سليط السّوْط.. صادح الصّوْت، واضح الصّورة، بعيد المَدىَ، دويّ الصّدىَ.. تساؤل يردّنا إلى أبيات رائعة للشاعر المشائم-المتفائل أو المتفائل-المتشائم ابن الرّومي إذ يقول فيها: ولي وطنٌ آليت ألاّ أبيَهُ / وألاّ أرىَ غيري له الدهرَ مالكَا عهْدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً / كنعمة قومٍ أصبحوا في ظِلالكَا فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنّه / لها جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكَا وحبَّبَ أوطانَ الرِّجالِ إليهمُ / مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكَا إذا ذكروا أوطانَهم ذكَّرتهمُو / عُهودَ الصّبا فيها فحنُّوا لذلكَا وقال شاعر آخر: وما الوطن المحبوب إلأ يتيمةٌ / وباقي المعالي كالدّراري التوائمِ وجاء في أندلسيات أمير الشعراء "أحمد شوقي" عن أنبل معاني حبّ الأوطان، والتشبّث بأهدابها، والتعلّق بتلابيبها وتفضيلها على ما لا يمكن أن يخطر لك على بال: وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه / نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي وقال أيضا: ويا وطني لقيتكَ بعد يأس * كأني قد لقيتُ بك الشبابا وكلّ مسافر سيؤوبُ يوما * إذا رزقَ السلامة والإِيابا وكلُّ عيشٍ سوف يطوى * وإِن طالَ الزمانُ به وطابا كأن القلبَ بعدَهُمُ غريبٌ * إِذا عادَتْه ذكرى الأهلِ ذابا ولا يبنيكَ عن خُلُقِ الليالي * كمن فقد الأحبةَ والصِّحابا تعلّقنا بأوطاننا إذن، هل هو مقرون بعوامل مؤثّرة قد لا نعيها إلاّ بزوالها أو بحرماننا منها.. حيث ننغمس في مشاغل الحياة المتعاقبة، ونغوص في مشاكلها اليومية المتواترة التي لا تني ولا تنتهي. قال الأقدمون محقّين: حبّ الوطن من الإيمان. ولكن هل حبّ الأوطان والتعلق بها والتشبّث بأهدابها سمة مقصورة على الكادحين، والعسيفين، والمحرومين والمعوزين الذين لا يبرحونها إلاّ لماماً، أو قسراً أو قهراً، أو تعسّفاً أو عنوةً لا اختيارا..؟ وهل هي ليست سمة المَيسورين، المُترفين، الباذخين من الأثرياء الذين لا ينفكّون، يطيرون، ويطوفون، ويجولون، ويصولون بدون انقطاع وبلا حساب فى "أوطان" غيرهم من عواصم العالم النورانيّة، والضبابية، والنجومية، والهوليودية، والبليودية وسواها من بلاد الله الواسعة المترامية الأطراف..؟! أم أنها شهادات نتشدّق بها أو شعارات نرفعها ونزهو بها، أو نياشين نتملّى بها كلما ضاقت بنا الدنيا، وناءت بثقلها على كواهلنا أو نأت بنا عن أوكارنا، وأعشاشنا، ومنازلنا، وبلداننا. ومضاجعنا، ومرابضنا، ومساقط رؤوسنا..؟ هل الحياة التي نكابدها، ونصارعها، ونواجهها مُكرهين، ونعيشها مُرغمين عن كثب هي التي تلقننا حُبْ الأوطان وعشقها حتى العبادة؟؟ لقد تساءل بعضُهم ذاتَ يومٍ كئيب من عليّة بني الأحمر النصري على مشارف غرناطة الحمراء متحسّرا بزفرةٍ حزينة حرّى عميقة من تلك الزّفرات المذلّة التي لقّنه إيّاها التاريخ في خذلان!! هل الأوطان منازل...؟ أم المنازل هي الأوطان، أو هي مجرّد مواقع، أماكن، أو مرابع، أو مراتع مغمورة منزويةٍ في ركنٍ قصيٍّ من أركان مدينة مّا..؟ أو في مربض من مرابض قرانا ومداشرنا وضيعنا؟ أم الأوطان هي تلك الأمور جميعها مجتمعة، وهي فوق ذلك ذكريات، ومعايشات، وآهات، وإجهاشات، وإفصاحات، وهمسات، شهقناها وعشناها، وعشقناها، وترعرعنا في أحضانها، ومناكبها، وفى جداولها وجدائلها..؟ العاشق المتيّم، الواله، الولهان، المُحبّ الصبُّ، التائه، الهيمان، الضائع في متاهات الصّبابة والغارق في بحور الهوى، وأحلام الهيام، والأُوَام والجَوي قيس بن الملوّح، قال متحسّراً متألّما ذات يومٍ عن ديار خليلته ليلي العامرية : أمرّ على الدّيارِ ديار ليلىَ / أقبّل ذا الجدار وذا الجدارَا وما حبّ الديار شغفنَ قلبي / ولكن حبّ من سكنَ الديارَا قيس ابن الملوّح يؤكّد لنا هنا كما نرى أن الإنسان هو الوطن، وأنّ الإنسان هو المحبوب.. فالبيت عشّ دافئ، وأيكٌ نابض بسكّانه وليس بحيطانه وجدرانه!. ونختم هذه العجالة بأبياتٍ رائعة بديعة، للشّاعرة الشّفيفة العفيفة ميسون بنت بحدل الكلبي، وذلك بعدما تزوّجها الخليفة الأموي الأوّل ومؤسّس الخلافة الأموية معاوية بن أبي سفيان، وأسكنها قصراً منيفاً في الغوطة بالشّام.. قالت: لبيت تخفق الأرواحُ فيه / أحبُ إليّ من قصرٍ منيفِ ولبس عباءةٍ وتقرّ عيني / أحبُ إليّ من لبس الشّفوفِ كسيرة في كسر بيتي / أحبُ إليّ من أكل الرّغيف وأصوات الرّياح بكل فجٍّ / أحبُ إليّ من نقر الدّفوفِ وكلب ينبح الطراق دوني / أحبُ إليّ من قطٍّ أليفِ وبكر يتبع الأظعان صعب / أحبُ إليّ من بعل زفوف وخرق من بني عمي نحيفٍ / أحبُ إليّ من علج عنوفِ خشونة عيشتي في البدو أشهىَ / إلى نفسي من العيش الطريفِ فما أبغي سوى وطني بديلاً / وما أبهاه من وطنٍ شريفِ ونحن بعيدان عن الوطن الغالي تائهين في متاهات الغربة التي قيّض الله لنا أن نعيشها قسرا، ذكّرني صديقي الأديب المُعنَّى عبد الحميد البجوقي ذاتَ يومٍ من أيّام الله الخوالي أنّ صاحب "الفتوحات المكيّة "محمد بن علي بن عربيّ الحاتميّ الطائيّ الأندلسيّ الشّهير ب: محيي الدين بن عربيّ، أحد أشهر المتصوّفين المعروف "بالشيخ الأكبر" أنه قال ذات مرّة: "كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها بالولادة". إذا كان الدفاع عن حبّ الأوطان، والذود عنها، وعن حقوقها المشروعة (لغطا) في عُرف البعض فعلى الدنيا وعلى أهلها السّلام، سيظلّ المواطنون الأبرار يجاهرون بمحبّتهم لأوطانهم بلا هوادة مهما بعدتْ عنهم، أو بعُدُوا عنها، وناءت بينهم الديار وشحط المزار، ومهما صاحت أصوات الكائدين، وتعالت حناجر الحاقدين.. ستغدو محاولاتهم اليائسة لإسكاتهم عصفاً من هشيم، أو قبضاً من ريح، أو عضّاً على حديد صلب، أو نفخا في قربة مخرومة، سيظلّ عنادُهم المُرّ يقطر من فيهم على مضض، كما قال عنهم وعن أمثالهم الشاعر الأعشىَ في الزّمن الغابر في معلّقته: كَنَاطِحٍ صَخرَةً يَوْماً ليوهنها / فَلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ..! الكلام الغثّ الذي لا طائل تحته مردود على قائليه، ولابدّ للرّياح أن تذروه.. وسيظلّ التوّاقون إلى معانقة الحريّة يدقّون أبوابَها الحمراء بأيديهم المُضرّجة بالدّماء دقا عنيفا حتى تُفتح لهم أبوابها فيندفعون إلى مباهجها زُرافاتٍ ووِحدانا أفواجا أفواجا، فالليالي المدلهمّات مهما طالت حِلكتها لا بدّ أن يدركها صبحٌ باسمٌ وضّاء.