حول الجامعة بين التفكير الفلسفي والرهانات المؤسساتية، يتمحور العدد الجديد من أبرز المجلات الفلسفية المغربية "الأزمنة الحديثة"، الذي صدر مزدوجا في عددين، باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. ويضم هذا العدد، في شقه العربي، أبحاثا حول مستقبل الجامعة، وإصلاحها، وتحديات مجتمع المعرفة، ومقاربات فلسفية للجامعة وأدوارها وواقعها، وماضي الجوامع الجامعات، والتربية على القيم الفلسفية. بينما يضم الشق الفرنسي والإنجليزي أبحاثا في العالم الجديد بعد "كوفيد 19′′، والتفكير في المغرب بعد الجائحة، والتركيب في علاقته بالمسرح، ونقاشا حول جسد السوسيولوجي محمد الناجي المقيَّد، وأفكار هانة أرندت عن التعليم، وتجديد التعليم العالي في ضوء البراغماتية والهرمنيوطيقا. وتنبه الورقة التمهيدية ل"الأزمنة الحديثة" إلى أن تاريخ المؤسسة الجامعية "يمتزج بتاريخ تشكل فكرتها داخل المباحث الفلسفية والسياسية المختلفة"؛ فهي تمثل "بؤرة تلتقي فيها تواريخ عدة متقاطعة فيما بينها"، هي: تاريخ الفكر، وتاريخ المؤسسات، وتاريخ الأحداث السياسية والثقافية التي عرفتها مجتمعات الغرب الأوروبي على وجه الخصوص. ويقارب هذا العدد إشكالية "دور الجامعة في علاقتها الأساسية المزدوجة بإنتاج المعرفة وتكوين الكفاءات والنخب، خاصة في المجتمعات التي لعبت فيها دورا محوريا في تنوير العقول والارتقاء بالنوع الإنساني". وتابعت الورقة التمهيدية للعدد: "لقد اعتُبرت الجامعة التجلي المؤسساتي التاريخي للعقل البشري، ولمختلف المباحث المعرفية التي أسسها وطورها، قبل أن تُتمثَّل كفضاء بيداغوجي لنشر هذه المعارف وتكوين الشباب وتأهيلهم"؛ لأن "تأسيس الجامعة كان متماهيا، بشكل كبير، مع تأصيل العقل المفكر ومباحثه العلمية والتاريخية والسياسية والثقافية والقيمية". ويجمع مقالات هذا العدد التاسع عشر والعشرون من "الأزمنة الحديثة" هاجس "فتح سبل عديدة لإعادة التفكير في الجامعة من حيث أسسها وغاياتها، في علاقتها بوظيفتها الثقافية والسياسية والفكرية"؛ وهو هاجس، تقول المجلة إنه "يبتعد عن الأصوات التي تعالت وكثرت منذ الستينيات من القرن الماضي، والتي انحصر همها الأساسي في انتقاد الجامعة من منظور النجاعة والمردودية والفعالية". ومن زوايا نظر مختلفة، تتقاطع مقالات هذا العدد في اختيارِ جُلِّها أعلاما فلسفية لها وزنها في تاريخ الفلسفة، سواء كانت ألمانية أو فرنسية أو إنجليزية أو تراثية إسلامية، وتلتقي عند "التأكيد على أن الجامعة لم تكن قط مجرد موضوع تقني وتنظيمي تتركز غالبية الإشكالات المتعلقة به في قضايا البنية التربوية والتدبير والهيكلة والتعميم؛ وإنما كانت دوما، ولا تزال، أفقا للتفكير الفلسفي الذي وضع في صميم تأملاته وبحوثه كلا من الإبستيمولوجيا، ونظرية العقل، والفلسفة السياسية، وسوسيولوجيا المعرفة والمؤسسات، علاوة على نظريات الحق والسلطة والتربية". ويحلل بحثان يضمهما هذا العدد الجامعة من خلال تجربة الحضارة الإسلامية، سواء من خلال تحليل الوظيفة العلمية والتربوية للجوامع / المساجد، التي تزكي أدوارها السياسية والاجتماعية والدينية، حيث كانت "مكانا للعلم والمعرفة، جعل منها فضاء علميا أشبه بجامعات ومعاهد، مهد لتأسيس المدارس العلمية المختلفة التي نشأت في وقت متأخر"؛ فيما يربط البحث الآخر بين فكرة الجامعة وبعض أطروحات أبي نصر الفارابي، نظرا لكون "مشروعه الفلسفي والتربوي والاجتماعي والسياسي والقيمي (يستضمر العديد من الأطروحات التي نحتاجها اليوم في جامعاتنا، ونراها ضرورية لنهضة جامعية حقيقية بإمكانها قيادة النهضة الثقافية والسياسية والمدنية بشكل عام)". وذكر المصدر ذاته أن الهدف من إعادة تأسيس الجامعة الألمانية الحديثة كان "إرساء إطار مؤسساتي يبرز التطور الذي حققه العقل البشري، ويصبح فضاء معرفيا قائما على الحرية الأكاديمية والحكم النقدي والتقييم العقلاني والتاريخي للمعارف"، دون أن يكون هدف فلاسفة العصر الحديث في ألمانيا "ربط الجامعة بالتكوين في مجالات المهن والتشغيل"، بقدر ما "اقترن بغاية خلق بوادر مجتمع علمي وأكاديمي يخدم تقدم العقل ويكرس دور النقد". وتقابل الورقة التمهيدية للمجلة بين هذا التصور والتصور الفرنسي، مع نابليون أساسا، الذي اتجه إلى "إنشاء معاهد أو مدارس عليا متخصصة هدفها تكوين الأطر التي تحتاج إليها الدولة، دونما اهتمام بوحدة الوظيفة الجامعية"، ثم تزيد مفسرة: "التصور الألماني كان ينهل من المثالية الألمانية ومنظورها للعلم كتفكير ذاتي يحرر المعرفة من كل السلط والغايات المباشرة"؛ وهو نموذج "بدا للعديد من الباحثين أنه (...) لم يعد يستجيب للتطورات المعرفية والسياسية والاقتصادية التي عرفتها المجتمعات الحديثة منذ القرن التاسع عشر؛ ذلك أن الطلب الاقتصادي من الكفاءات تنامى بفعل نمو المشاريع الصناعية والتكنولوجية". ومع العمل "الواضح جدا"، في ظل التنافسية الاقتصادية العالمية، على "تطوير وظيفة الجامعة ومهمتها في التكوين والتأهيل لتتلاءم والطلب الاقتصادي"، صار التحدي أمام الدول الحديثة في علاقة بالجامعات هو: "إما أن تحافظ على وحدتها ووظيفتها في التأهيل الأكاديمي الصرف، وإما أن تعيد هيكلة ذاتها لتتفاعل مع التطورات الاقتصادية والمستجدات السريعة التي تلحق فضاء المعارف والتخصصات والتكنولوجيات"، وهي تحديات لم تعد معها مشروعية الجامعة قائمة بالأساس على "مفاهيم العقل والتطور والحرية الأكاديمية، وأصبحت مطالبَة بإعادة بنائها على مفاهيم وسيرورات تتولد عن حقول التخطيط والإنتاج والتسويق، وما يرتبط بها من مرجعيات الجودة والنجاعة الفعالية". هذه التحديات والخيارات "تزداد حدة" وفق "الأزمنة الحديثة" أمام "التزايد الكبير الذي عرفته الديمغرافيا الجامعية، وارتفاع المطالب السياسية بدَمَقرطَة التعليم عامة، والتعليم العالي خاصة، والاستجابة لحاجات النسيج الاقتصادي داخل المجتمعات المعاصرة". وتستحضر المجلة في تمهيدها نموذجا آخر من التجربة الأمريكية، مع ديوي والفلاسفة البراغماتيين الجدد، يقدم "خيارات أخرى لتغيير وظيفة الجامعة، من منطلق إضفاء الطابع الإنساني على العقل بواسطة البحث العلمي، ما يعني جعل التربية عمليةَ تحول دينامي للعقل، وجعلها بالتالي فضاء للتكوين الحي المفتوح على المستقبل، بدل إخضاع هذا التكوين لمقتضيات المنطق الإبستيمولوجي للمعارف ولمنظور معياري ضيق للحقيقة"؛ أي أن "مستقبل الجامعة هو بالذات مستقبل البحث الذي يشارك المجتمع اهتماماته، بدل الانغلاق في منطق معزول للمعرفة والحقيقة". ومن بين الخلخلات التي أثرت في مساءلة الجامعة سؤال الديمقراطية والإنصاف وتكافؤ الفرص أمام التوسع الكبير الذي شهدته أعداد مرتادي الفضاء الجامعي من الطلبة والأساتذة، والتحولات التي بدأت تعرفها الوظيفة الجامعية، ومشكلة مستقبلها، وفق ما تطرحه السياسات العمومية التربوية وسياسات المعرفة بوجه عام، إضافة إلى العلاقة بين الجامعة والسلطة والتربية أو التكوين. وقدمت مجلة "الأزمنة الحديثة" ملف عددها الجديد بوصفه "حلقة أولى للتفكير والنقاش في موضوع الجامعة بوجه عام"، مضيفة: "ستلحقه ملفات أخرى تعتزم المجلة تخصيصها لموضوع الجامعة المغربية من زوايا مختلفة: سياسات المعرفة، هندسة التكوين، سياسات البحث، التأهيل والاندماج الثقافي والفكري، التنمية والاندماج الاقتصادي".