كانت طنجة لموقعا الجغرافي، الذي لا يفصلها عن الشط الأوروبي غير كيلومترات معدودات، مأوى ومعبرا للذين يغريهم قصر عرض المتوسط بالعبور، بأي وسيلة مهما بلغت درجة بدائيتها، لمعانقة الحلم الأوروبي والانعتاق من البؤس الإفريقي. لكن حظ هذه المدينة لم يكن دائما هو منح الإقامة لمن لفظته أرزاق بلده، بل كانت ومازالت محط ومأوى للعديد من الأدباء والفنانين، وقبلة لفاعلين اقتصاديين، وكوادر في مختلف التخصصات، ومن مختلف الجنسيات، تحفظ ذاكرة طنجة وحاضرها، سيرهم وصنيعهم. دائما يُشاد بدورهم ويُحتفى بقدومهم. غير أن للبؤس تجلي يبوح لك بأسراره دون أن تطلبها. وهذا شأن المواطنين الذين دفعتهم ظروف العيش البالغة السوء، إلى التماس رغده، في بلدان هي مثال للرفاهية والهناء. قبل العبور الأخير، يحط مواطنو جنوب الصحراء في أحياء طنجة الهامشية وبراريها، خوفا من أي ملاحقة أمنية. كانوا يختلسون التسوق أو التسول، ينتقون الأوقات والأماكن بحيطة واحتراس شديدين لقضاء ذلك. ولما تجرؤوا على استوطان بعض الإقامات في حي بوخالف، الغير الآهلة بأصحابها، كانت تلك المداهمة الامنية لاسترجاع الأمور إلى نصابها. لكن الذي يلاحظه المرء اليوم، هو انفتاحهم وخروجهم إلى أهم شوارع طنجة ومراكزها الحيوية. يتخذون أماكن يفترشون بضاعتهم جنبا إلى جنب أهل البلد، رغم التنافس الشديد بينهم عليها. تعلو أهازيجهم الشعبية وموسيقاهم الضاربة في العمق الإفريقي، أهم المراكز التجارية العصرية ترويجا لبضائعها، واستجلابا لمزيد من المتسوقين. يطربون رواد المقاهي بالنقر والقرع على آلات موسيقية هي نتاج صناعاتهم اليدوية أحيانا، وتقديم فرجة ثقافية لم تتسع لها فضاءات المدينة الاستهلاكية. لكن الأبرز في هذا التواجد، ما تعرفه كنيسة إيبرية من احتلال لا تخطئه الأنظار، وقد أنشؤوا مخيما في محيط حديقتها، يذكر بمخيم أولاد زيان. ينتشرون آناء الليل وأطراف النهار على الأرصفة المحاذية للكنيسة، بشكل يثير الرعب لدى بعض المارة، لما يتعاطونه من سلوكيات تثير الشك والريبة . في حين نجد البعض الآخر يشاركهم أشياءهم ويداعب الكرة معهم ويتعاطف ويقدم مختلف أشكال المساعدة لهم. وقد تجد من يقبلهم مساعدين له في محله التجاري يرفع ويضع البضاعة في إخلاص تام للتاجر والزبناء. إن تردد مواقف أهل البلد اتجاه هذه الفئة من المهاجرين الذي اتخذوا من المغرب موطنا، أو بلد عبور، مرده كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ليس إلى لونهم أو جنسهم، بقدر ما موقف نابع من السلوكيات الصادرة عنهم كما صرح بذلك البعض. وخير دليل على هذا هو تمكينهم وإفساح المجال لهم لممارسة التجارة في أسواق تضيق بالمغاربة من التجار الجائلين. وقبول خدماتهم لدى التجار القارين، وقوة عاملة تبرز بشكل جلي في منطقة طنجة البالية، صيفا وشتاء. أما الفن الموسيقي الذي يهدونه لساكنة المدينة وزوارها، فهو مبعث إعجاب وإشادة، بل أصبح وسيلة دعاية لترويج المعروضات التجارية، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على القيمة الفنية، والذوق الجمالي للفن الإفريقي الذي اتخذ ت إبداعاته التشكيلية، زينة للعديد من مراكز التسوق والفنادق، بالإضافة إلى الموسيقى، زينة تؤثث فضاءات بعض الأسواق العصرية تسر الناظرين. وتبقى السلوكيات الشاذة محط رفض واشمئزاز، بغض النظر عمن صدرت منه، مقيم أم مهاجر.