في إحدى أيام فصل الشتاء الباردة، خرجت برفقة أصدقائي ،- و نحن لازلنا صغارا- من إحدى قاعات السينما بمدينتنا الصغيرة، في ساعة متأخرة من الليل ، وقررنا الرجوع إلى منازلنا مهرولين و خائفين من العقاب الذي كان ينتظرنا من آبائنا ، بسبب بقائنا خارج بيوتنا إلى ذلك الوقت. و في إحدى الزوايا المظلمة في مسارنا ، رمقنا رجلا يلبس جلبابا أسودا واقفا في ظلام دامس و كأنه ينتظرنا أو يترقبنا ، و عندما دنونا منه، صاح أحدنا : إنه ” الجن” في هيأة إنسان ، ثم لاحظ آخر أن له رجل ” ماعز”. عدونا و الرعب و الخوف يتملكاننا ، حتى كادت قلوبنا الصغيرة تقفز من أقفاصنا الصدرية . و عندما رآنا الرجل المتوارى في الظلام ، نركض ، طاردنا اعتقادا منه أننا قمنا بأحد الأفعال المعاقب عليها قانونا ك: السرقة. لأن الرجل كان حارسا للحي الذي مررنا منه. كنا نجري بسرعة كبيرة و نبكي في نفس الآن ، و كان الحارس يطاردنا بنفس الإيقاع لإيقافنا ، إلا أنه لم يتمكن. صبيحة الغد ، تأملت فيما حدث بتداعياته ، و خلصت -بالرغم من حداثة سني- إلى أن كثيرا من الطلاسم و الخرافات تصاحب هذا الكائن الذي هو ” الجن”. كان يقال لنا و نحن صغار ، من طرف آبائنا و جيراننا و من يكبرنا ، أن هذا الأخير يأخذ أشكالا مختلفة ، ليفتك ببني البشر. فقد يتشكل حيوانا : الكلب ، القط … و قد يختفي و يسكن مع أبنائه في المراحيض و الأماكن المهجورة و القذرة. و أن كل دابة أو حيوان بدون ظل ، فهو ” الجن” و كان الجميع يحذرنا من رمي الماء الساخن في المراحيض، مخافة إيذاء ” الجن” الساكن فيه ، الذي قد يكون رده خطيرا و قاتلا. كما كنا نُنْهَى على رمي الحيوانات بالحجارة بالليل ، فقد يكون أحدهم ” جنا”. و أن نتأمل أرجل المارة و ظلهم لمعرفة ، هل يتعلق الأمر بإنسان أو ب”جن”. و كانت تُرْوى لنا أقاصيص حول ” الجنيات” اللائي كن يوقعن الرجال في حبهن بسبب جمالهن الأخاذ، و أن أغلب مراتعهن يكون في البحار و الوديان و الرياضات المهجورة. و كانت أغلب تلك الحكايات مليئة بالرعب و الخوف. و لا زلت أتذكر ذلك ” الفقيه” ، الذي لم يكن يكف عن ترديد قصص بعيدة عن العقل و قريبة من الخيال . فقد حكى في إحدى المرات أنه تزوج ب” جنية” كانت تتردد عليه بالمسجد ، و كانت تأتيه من بئر الجامع. و في أخرى زعم أنه اشترى كبش عيد الأضحى ، و حمله على كتفيه قاصدا منزله ، و في طريقه سمع ” الكبش” يكلمه، فما كان منه إلا أن رماه و فر هاربا. و أغرب ما كنا نسمع و يقص علينا – و نحن أطفال- هو عشق ” الجن” للنساء الجميلات و حلوله فيهن ، و كذلك حب ” الجنيات” للرجال الوسيمين خاصة. و كم من مرة قيل لنا أن الإنسان الذي يسكنه الجن ؛ يُخرج من جسده بواسطة أحد الفقهاء المختصين في هذا الميدان. كان الفقيه، المعلم، الأستاذ ، الآباء و باقي أفراد المجتع ، كلهم يروون بدون انقطاع حكايات عن ” الجن” ، و قدراته الأستثنائية و الخارقة في الإيذاء .بل و لقب الطفل الأرعن و الذكي و الكثير الحركة و المالك لإماكانيات استثنائية ب” الجن” . و حين بدأ يتطور و يتشكل وعيي الثقافي و الفكري و السياسي ، -كما غيري من مجايلي – أدركت أن تلك الظواهر خرافية و تافهة ، و استنتجت أن تلك الهرطقات كانت تكرس الخوف من المغامرة لدى الناشئة . وبعيدا عن المعتقد الديني الذي كان محترما ، فلقد كانت هناك جهات متعددة تعمل على انتشار الخرافة لاستفادتها من أوضاع معينة في البلاد. و لعل السبب في تأخر بعض الشعوب عن ركب الحضارة ، يرجع في جزء منه إلى انتشار الأمية و ضعف التعلم و هيمنة الفكر الخرافي بما يحويه من طلاسم غير مفهومة. و يقينا أن أسباب تقدم الشعوب ترجع إلى : التمدرس و انعدام الأمية و إفساح المجال للعقل لكي يبدع إن الخطوة الأولى نحو الحداثة و التحضر هي تعميم التعليم و مناهضة الخرافة و إنارة ظلام الجهل الدامس و المنتشر، بإشعال شمعة العلم.