دار وحكاية سلسلة رمضانية بعدها الأستاذ عبد المالك العسري ، الحلقة 16 تستضيف الأستاذة خديجة اليملاحي: __________ كيف لي أن أستعيد ذاكرة المكان الذي سكن الروح و الوجدان، و كان له دور حاسم في صياغتي إنسانيا و ثقافيا و أخلاقيا، وأن أسترجع حكايا الزمن الطفولي الضاج باللحظات العميقة والشفيفة ؛ زمن أراه ينساب كالنهر الوديع مطوقا خاصرة المدينة التي احتضنت دروبها و ساحاتها العتيقة خطواتي الأولى و غمرت ذاكرتي بأساطيرها و حكاياتها المضمخة بعبق التاريخ . مدينة تستحم بشلالات عطر زهر الليمون و البرتقال و بشذى الياسمين و مسك الليل…؛إنها مسقط رأسي مدينة القصر الكبير. أعترف أن عشقي للأمكنة عميق حد الشغف، و أن دارنا القديمة الواقعة “بعدوة الشريعة”، حي جامع السعيدة، تحتل صدارة الأمكنة التي سكنتها و سكنتني . تنجلي الصور، تقبل محمولة على شراع الحنين ، فتتراءى دارنا العامرة بالمحبة و المشاعر الدفيئة المؤثثة بالقيم و الرموز و الأحلام. طقطقات اللقلاق عند عودته مساء بعد رحلته اليومية بحثا عن غذاء صغاره “يقبلهم.”..؛ كانت تحكي لي جدتي. هديل الحمام ، زقزقة العصافير التي كانت تبني أعشاشها فوق جدار سطحنا ، تهدهد صباحاتنا ومساء اتنا…. أتذكر البئر و الدالية مزهرة بعنبها المشرب بحمرة ناعمة محفوفة بخضرة هادئة، و شجرة البرتقال المنتصبة وسط فناء الدار- خلال طفولتي الأولى- “محابق” الياسمين المختلف ألوانه ؛ الأبيض البنفسجي ،الأصفر، العطرشة، النعناع الحبق ، مرددوش مؤثتة “السطوان” و السطح. صوت الآذان ضياء القمر ،هلال رمضان و طقوس رؤيته المفعمة بالدهشة و اللهفة و الغبطة، و الاستعدادت لموسم الشتاء بتحضير الخليع ،و”سكسو” والشعرية والسمن البلدي ٬الزبدة المذوبة و الزيتون و الليمون المرقد، وأشياء أخرى تخزن في “المصرية”. و كيف أن دارنا كانت ورشة نابضة بقيم المحبة و التسامح والتضامن و التآزر، و فضاء مشرعا على الأهل والأصدقاء والجيران، والقريب والغريب . تحضرني الآن نماذج نسائية كن يقصدن بيتنا باستمرار منهن سيدة من أصل سوري، صفية، فتيحة، سوسة ،أمي خضرة وأمي حديوة، وأخريات ؛ نساء كن يعشن وحيدات و كن في حاجة لمن يرد لهن الاعتبارو يضفي لمسات إنسانية على حياتهن. تقبل علي الصور و اللحظات الآسرة بعمقها الإنساني المتجدر في الوجدان؛ تبدو لي جدتي بشخصيتها القوية الساحرة و هي تصحبني، أحيانا، بحنو دافئ إلى مدرستي الأولى للاعائشة الخضراء في الصباحات الشتوية المطيرة الممهورة بلسعات البرد القارس ، معبدة أمامي الطريق نحو العلم و المعرفة، ونحن متحلقون حولها-أنا و إخوتي – نتمتع بحكاياها الجميلة وهي تغني لنا من حين لآخر أغاني تراثية لا زالت أصداؤها تتردد في ذاكرتي إلى اليوم . أرى أمي المفعمة بفيض المحبة و المودة ،الشغوفة بالقيم الإنسانية النبيلة “قيم الصدق، الجمال، التواضع ،الاحترام، العمل، التكافل..، العاشقة لجمال الطبيعة حد التصوف و المتمتعة بحاسة وطنية و قومية يقظة وعميقة عبرت عنها بحزن شفيف عند وفاة الملك محمد الخامس، و الرئيس المصري جمال عبد الناصر. أرى أبي الشغوف بمختلف التعبيرات الثقافية، و بكل ما يغذي و يثري الفكر و الروح و الوجدان من روائع الأدب العربي و العالمي و العروض المسرحية و السينيمائية، و الموسيقى المغربية و العربية و الأجنبية، والمولع بطرب الآلة، حيث كان يقيم سهرات في بيتنا بشكل دوري مع مجموعة من أصدقائه. تبلور وعيي الحقوقي و السياسي وانشغالي بالقضايا الوطنية و القومية والإنسانية ؛ وفي عمقها القضية الفلسطينية؛ كان نابعا من الخلفية السياسية لوالدي ومن القيم والمبادئ و الأفكار التي كانت راسخة داخل الأسرة . الآن يتبادر إلى ذهني أن أسرتي كانت عازمة على الانتقال إلى سكن جديد “بالمحلة”، إلا أن جدتي لم تستوعب إمكانية العيش بعيدا عن مسجد جامع السعيدة، والجيران وعن فران” حمان” و “حمام سيد الهداجي” و ” المريح “و”المرس”….وخاصة الرحيل عن دارنا الخالدة في الذاكرة والوجدان .