يهاتفني صديقي الحكيم باستمرار منتظرا عودتي من الجنوب، العطل القصيرة غير كافية لمد أواصر الصلة مع الأهل والأصدقاء الكثر، لكن الجلوس بمقهى الواحة كفيل بحل هذه المعضلة. فالموعد المسائي يتحول إلى صالون ثقافي، لكن السجال حول «الربيع العربي» والتحولات السياسية أفقد هذا الصالون عطره. وتحول إلى شارع خلفي لميادين الثورة. القطار المنطلق من مراكش والمتجه نحو القصر الكبير لم يتخلص بعد من الرتابة التي وسمته في ثمانينيات القرن الماضي، زمن الدرجة الرابعة التي كانت تقل كافة أطياف الشعب بأثمنة زهيدة، وفي أحايين كثيرة من دون ثمن. ما زال كما هو على حاله بائسا، على الرغم من محاولة تجديد بنيات المحطات. ما كان لي أن أعقد هذه المقارنة لولا تنبهي إلى المحطة الجديدة التي نزلت فيها عند وصولي إلى القصر الكبير، والتي تحمل اسمه، بدت لي وكأنها تحاول إقناع الواصل إليها بتغير الأحوال بالمدينة. لكن المدينة المحاطة بحزام من السكن العشوائي توحي بغير ذلك. سألت سائق الطاكسي الشاب عن سبب تناسل هذا القبح العمراني، وعن كثرة الأزبال، والعربات تجرها الحمير، واحتلال الباعة الجائلين الأرصفة، فأجابني بعد أن رمقني بنظرات مستغربة: عادي.. ألم نعط السلطة للسوق.. علينا أن نتآلف مع بشاعته.. لم أجبه، فرؤيتي إلى أعداد المشردين عند بوابة الحومة، وهم يحتمون بقطع الكارطون، ويتمنون دوام الليل ضمانا لهدوء زائل، كانت تحمل إجابة وافية عما اعتدت رؤيته لأزيد من خمسين سنة. سألني الحكيم الذي كان أول من التقيت به بعد الظهيرة: - أراك تفضل الجلوس في الركن الأيسر لواجهة مقهى الواحة، هل للأمر صلة برغبة في أن تكون قريبا من المركز الثقافي الذي قضيت جزءا من حياتك في رحابه؟ حاولت صياغة إجابة مقنعة لا تتعدى أنني أفعل ذلك لقرب المقهى من «باب الواد»، بكل ما يحمله قدمه من سطوة الحنين، وعبق التاريخ. غيرت وجهة الحديث محاولا معرفة جديد ملفه القضائي مع المركز الجهوي للاستثمار الفلاحي الذي تخلى عن خدماته على الرغم من الجهد الذي بذله بوصفه من أوائل المهندسين الذي ساهموا في تأهيل منطقة حوض اللكوس بعد بناء سد وادي المخازن. لكنني تفاجأت بانتقال الحكيم عن عمد وبسرعة إلى الحديث عن مستقبل الأرض في ضوء الاكتشافات العلمية الجديدة قائلا: - ألا تعتقد يا صاحبي أن الوقت قد حان لإعادة النظر في العلوم التي أظن أنها نظريات ثابتة؟ إن نظرية إنشتاين صارت الآن في مهب الريح؛ فهي لم تعد أحد أسس الفيزياء المعاصرة التي ارتكزت على النسبية أي كتلة السكون. لكن إشكال الكتلة والسرعة يا صاحبي يظل أهم ما تواجهه نظرية إنشتاين التي انتهت إلى القول بأن الضوء هو أسرع شيء في الكون. هل تعلم أن قياسات أجراها خبراء في إطار الاختبار الدولي «أوبرا»، كشفت أن نيوترينوات، وهي جزيئيات أولية للمادة، اجتازت نفقاً يبلغ طوله 730 كيلومترا يفصل بين منشآت المركز الأوروبي للأبحاث النووية «سيرن» في جنيف ومختبر «سان جراس» في إيطاليا بسرعة 300006 كيلومترات في الثانية. وهذا مرادف لمعادلة مفادها أن 6 كيلومترات في الثانية هي أكثر من سرعة الضوء. ولقد بعث لي وبشكل خاص وسري علماء سيرن، أقصد المنظمة الأوروبية للبحث النووي بسويسرا نتائج جديدة تتضمن تفاصيل أحد الجسيمات التي سارت بالفعل أسرع من الضوء. ووحدي صديقي العزيز من تلقى –قبل وكالة ناسا- خبر اكتشاف كوكبين بحجم الأرض يدوران حول نجم خارج المجموعة الشمسية. بعد هذا الذي قلته هل تظن أننا وحدنا في هذا الكون. استمر لساعات يحدثني عن الفيزياء الكوانتية، واللاحتمية، وعن تداخل الأكوان، وأهمية حضارة الأسلاف، وعن أبحاثه الجديدة، وتمكنه لوحده من آليات رقمية للكشف الفلكي، حدثني بحرارة عن الأجسام المحيطة بالأرض، والدوائر التي لا تنتهي والتي تتحرك دون أن نحس بها، إلى أن قال: - عما قريب سأجد أورغانون هذه الدوائر، وسأتمكن من السفر إلى مناطق لم يحلم بها رواد الفضاء. أنا على علم بتفاصيل حزام كايبر، وبالقوانين المتحكمة في الأجسام التي لا تسحبها الجاذبية. وإذا تمكنت من الوصول إلى إحدى الكواكب العشرة اللامعة مثل كوكب أورانوس سأتمتع بحياة أبدية. فالزمن الفيزيائي في الفضاء يعد ببلايين السنوات الضوئية. وكما تعلم يا صاحبي فجاذبية الأرض هي لعنة أصابت الإنسان الذي قدر له أن يموت بسرعة. فجأة توقف عن الكلام ملتفتا يمينة ويسرة. دنا مني وبصوت منخفض قال: - الاتحاد الفلكي الدولي يلاحقني، ويرغب في سرقة نظرياتي العلمية... كنت أنصت إلى حديثه الشجي والمشوق باهتمام شديد، ولم أعد أدري كيف صعدت سيارة سوداء رباعية الدفع إلى رصيف المقهى متجهة نحوي، مبطلة حواسي بشكل تام. بصعوبة بالغة فتحت عيني كانت ثمة أضواء كثيرة تحيط بي، وأصوات تنبيه متقطعة، وأسلاك موضوعة تحت جلدي. - ما الذي يحدث، هل حقا أنا في كوكب أورانوس؟