مهرجان التاكرة في رأيي من أفضل المهرجانات التي تشهدها مدينة العرائش، رغم القصور الذي يعتري تصوره وتنظيمه، ولا أجد غضاضة في البوح بذلك، ليس لأني أفضل الأكل، أو كوني من عشاق هذه الأكلة، ولكن لدوره في إخراج المخبوء الثقافي، والكشف عن المخزون الحضاري للمدينة؛ ولأن هذا الإرث الثقافي العرائشي يعكس بوضوح عمق تاريخ المدينة وغنى ثقافتها على أصعدة متعددة. ذلكم أن المطعومات من جملة الإرث الثقافي لأي حضارة من الحضارات إلى جانب الملبوسات والعوائد والأعراف والتقاليد والمناسبات والأعياد وقيم الخير وصنائع المعروف التي تناقلتها الأجيال وتعاقبت عبر الأزمنة. الدول الجادة اليوم جعلت من التراث معارج للظهور الحضاري المعاصر، ومن أبرز الأمثلة تركيا التي سخرت كل الوسائل بغية تسويق ثقافتها ونشر هويتها في العالم، فأصبحت بذلك تجتذب قرابة 30 مليون سائح كل سنة والعدد في ازدياد. 1- في مجال الإعلام والسينما: – عدد هائل من المسلسلات التاريخية التي تؤرخ لحضارتها خصوصا الإسلامية (حريم السلطان- قيامة أرطغرل) – مسلسلاتها تحتل مراكز متقدمة عالميا (ranking) ولك أن تتخيل أن مسلسل "قيامة أرطغرل" يحتل المركز الثاني عالميا بنسب مشاهدة مرتفعة جدا حيث يشاهد في أكثر من 100 دولة. – موقع دفن "أرطغرل" الأب الروحي للحضارة العثمانية وابنه "عثمان غازي" من أكثر المواقع زيارة في تركيا. 2- في مجال الأزياء: تضم تركيا كبرى مصانع الألبسة، وأرقى دور موضة الزي الإسلامي، وتصدر للعالم العربي والإسلامي وغيرهما أرقى الموديلات المحتشمة (الحجاب- السالفار- البندالي) ومنتوجاتها تجمع بين الجودة والثمن المناسب ( LC Waikiki- Kotton) 3- المواقع الأثرية: – تضم تركيا أكثر من 17 موقعا أثريا ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي. – الأماكن التراثية التركية المدرجة في القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالمي يصل إلى 78. – أذكر أنني زرت منطقة معان بالعاصمة الأردنيةعمان وهي المنطقة التي يوجد بها "أهل الكهف" المذكورون في سورة الكهف، وفي تركيا منطقة يدعي الأتراك أنها الكهف وتدعى عندهم (مغارة أصحاب الكهف) تنازع ما في الأردن. – توجد منطقة يقولون إنها الجودي الجبل الذي رست عليه سفينة سيدنا نوح. – الزائر لهذا البلد يخرج بانطباع مُفاده أنك في أرض غير عادية، أرض مجدها وعظمتها أكبر مما تتصور، وأن كل جزء منها يحمل تاريخا عريقا يجب أن تقدره. 4- في مجال التطبيب: ابتدعت تركيا مجالا سياحيا خصبا على مستوى العالم، فاق نظيره في الصين وبعض دول العالم، يتمثل في السياحة الصحية والعلاجية (زرع الشعر المياه المعدنية الحارة العلاجية، وغير ذلك…) تاكرة ليست إناء توضع فيه الأسماك والخضراوات وبعض التوابل، ومهرجانها ليس تجمعا عاديا يتحلق فيه الناس للطهي والأكل، بل إنه موروث ثقافي يجب الحفاظ عليه والرفع من مردوديته حتى يؤدي وظيفته في خدمة تنمية المجتمع والعمل على ترقيته. بيد أننا نواجه بهذا السؤال الملح هو كيف يمكننا استثمار الإرث الثقافي في الرفع بهذه المدينة ومساهمته في التنمية المجتمعية، وأنا أعلم أن هذا الشعار من المشاع (على رأي الفقهاء) " وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر له بوصل"، وجوابه يحتاج إلى عموم وخصوص. أما العموم: فيحتاج إلى جدية في التعامل معه، ثم إلى أفكار جادة وتصورات مفيدة ومشاريع نافعة، وهذه لا تصدر إلا من موارد بشرية متفانية ومسؤولة، وتملك عقولا راجحة ونفوسا طاهرة من الأرجاس، بعيدا عن منطق الاستقطابات والانتماءات. وأما الخصوص فبتحقيق مناط التراث لقطع الطريق على المتاجرين به وإفساح المجال للتراث الحقيقي الذي تعارف عليه الآباء والأجداد وصار علما على مجتمعاتنا. ومن ثم فإن استقدام أشخاص تصرف عليهم الملايين من دون أن تستفيد منهم المدينة شيئا غير الفوضى والضوضاء فهذا من العبث الذي ينزه عنه العقلاء والباحثون عن الجودة؛ لأنه لا يفرح به إلا العرابيد أصحاب قنينات الخمر والأقراص المهلوسة، ولو غلفه القائمون عليه ببعض الأنشطة التراثية، ثم إنه لا يمكنه أن يؤدي الوظيفة التي يؤديها مهرجان تراثي حقيقي ولا نصفه، بل ربما تكون نتائجه عكسية على البلاد والعباد. وختاما ولأصدقكم القول فإني لا أعلم علة تعاني منها العرائش أكبر من مجموعة من المرتزقة والمنتفعين، وقد حان الوقت ليعلم هؤلاء المسترزقون والمتاجرون بهموم المدينة وتاريخها أنهم وبال عليها، ووباء يجب تطهيره. تضامني لا قيود له مع كل الفاعلين الجادين على اختلاف انتماءاتهم وأطيافهم ومواقعهم، الذين أدوا وظائفهم ولا زالوا. ودعمي مطلق لا حدود له لمهرجان تاكرة في انتظار نسخ أكثر نضجا. وتشجيعي قوي لكل مبادرة من شأنها أن ترفع التنمية المجتمعية بالمدينة.