عندما نفذ الإرهابي الأسترالي "برينتون تارنت" مجزرته الرهيبة التي أودت بحياة خمسين مسلما ومسلمة في مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش النيوزلندية في 15 من شهر مارس الماضي، بدا واضحا أن تلك العملية الشنيعة حركتها دوافع عنصرية بخلفية عرقية ودينية. وهو ما تعبر عنه العبارات والكلمات والأرقام التي كتبها على رشاشه القاتل، والتي تمثل رموزا وتحمل دلالات مرتبطة بتاريخ الصراع العرقي والديني بين المسيحيين والمسلمين : ( 1683م: حصار العثمانيين لفيينا) ( 1770م: معركة كارتال التي انتصر فيها الروس على العثمانيين) (732م: معركة بواتييه التي أوقفت زحف المسلمين نحو فرنسا) ( ألكسندر بيسونت الكندي الذي قتل ستة مسلمين في هجومه على مسجد في إقليم كيبك سنة 2017) (ميلوس أوبيليس الصربي الذي اغتال السلطان العثماني مراد الأول سنة 1389)… لذلك فإن هذا السلوك الإرهابي يمثل حلقة من حلقات العنف والعنف المضاد في إطار إوالية القتل التي لا يراد لها أن تتوقف بسبب تغليب خطاب الكراهية والتطرف والعداء على المحبة والإعتدال والتسامح. آخر حلقات هذه الإوالية الدموية كانت العاصمة السريلانكية كولومبو مسرحا لها يوم 21 الأحد أبريل، عندما استهدف انتحاريون ثمانية مواقع مختلفة بينها كنائس وفنادق، وهو ما أدى إلى مقتل أكثر من 350 شخصا من جنسيات مختلفة، بينهم 45 طفلا حسب إحصائية لمنظمة اليونسيف… ويبدو الإرتباط بين عمليتي كريست تشيرتش وكولومبو واضحا جدا، وخصوصا بالنظر إلى طبيعة المستهدفين في الحالتين معا. إذ من المؤكد أن العداء للآخر المختلف عقائديا وعرقيا هو الذي يؤطر هذا التعطش الكبير لدماء الأبرياء. لقد بين صمويل هنتنغتون في كتابه الشهير: " صدام الحضارات" أن وقود الحروب المستقبلية سيكون هوياتيا بامتياز، وهو أمر ليس جديدا على كل حال، لكنه اتخذ في العقود الأخيرة مسارات أكثر خطورة وتهديدا للأمن والسلام العالمي، حيث صراع الهويات الثقافية يطفو على سطح العلاقات الدولية. وواضح أن للأديان حضورا مفصليا في هذا الصراع، بالرغم من كل الجهود التي تبذلها المؤسسات الدينية في سبيل التقارب بين الديانات، وخصوصا التوحيدية منها ( الإسلام والمسيحية واليهودية). ولعل استهداف دور العبادة بشكل متكرر في العديد من العمليات الإرهابية التي شهدتها مناطق متفرقة من العالم خلال السنوات الأخيرة، يظهر حجم الحقد المتبادل بين " المؤمنين" بالديانات المذكورة ( مع مراعاة عدم التعميم طبعا). والهجوم على المساجد والكنائس والأديرة والمعابد هو بمثابة استعراض للقوة يتوخى إسقاط أكبر عدد ممكن من الضحايا، لكنه يخفي خوفا تتقاسمه جميع الأطراف، لأن كل جهة تعتبر الآخر المختلف خطرا يجب محاربته ومواجهته، وهو ما يجعل حلقات القتل لا تنتهي، حيث يتخذ العنف طابعا معديا ينتقل عبر التقليد والمحاكاة ( إذا استعرنا تعبير الفيلسوف الفرنسي رونيه جيرار)عندما يتحرك السلوك الإرهابي بدافع الإنتقام والثأر، ويتدثر برداء " البادئ أظلم"، أما سؤال من البادئ؟، فلكل طرف إجابته الخاصة ومرجعه التاريخي الخاص. إن هذا العنف الدموي الذي تحركه قناعات تحكمها تأويلات وتفسيرات دينية متطرفة تجعل الآخر المختلف والمخالف عدوا… هذا العنف إذن جعل الحقيقة المطلقة التي تتوحد بشأنها كل الديانات المذكورة ( الله الواحد) موضوعا للصراع والنزاع، لأن تصنيف البشر من خلال مقولتي " الإيمان" و" الكفر" في الإسلام والمسيحية واليهودية معا أدى إلى نتيجة واقعية تجعل المسلم مثلا يعتبر نفسه أفضل عقائديا من المسيحي واليهودي، وأن الجنة ستكون حكرا عليه، لأنه هو وحده من اهتدى بنور الحقيقة واتبع الدين الصحيح، وهي نفس الفكرة التي تحضر بالمنطق ذاته عند المؤمنين بالمسيحية أواليهودية. وهكذا تحولت حقيقة الله الواحد – التي من المفترض أن تقوي أسباب الترابط والتعايش بين " المؤمنين" بغض النظر عن دياناتهم- إلى نزاع حول السلطة العقائدية التي تحكمها نزعة التفوق واحتكار الطهرانية. وعندما يفسح المجال للخطابات المتطرفة التي تلوي أعناق النصوص الدينية، وتوظفها توظيفا إيديولوجيا أو عرقيا، يصبح المجال خصبا أمام تنامي الكراهية والتكفير والعنف بكل أشكاله. ورغم بعض المحاولات التي تسعى إلى تغليب التدين المعتدل والمتسامح في إطار ما يسمى ب: " الحوار بين الأديان"، فإن صوت التشدد والتطرف مازال يعلو على الإعتدال والتسامح. ولنا في ذلك مثال قريب عبرت عنه ردود الفعل الغاضبة من الفقرة الفنية التي تم تقديمها في مقر معهد تكوين الأئمة بالرباط بحضور محمد السادس إلى جانب بابا الفاتيكان خلال زيارته الأخيرة للمغرب. حيث تعالت الأصوات المنددة والرافضة لما اعتبر" تلفيقا بين الأذان والترانيم الكنسية" في الحفل المذكور. والعجيب أن هذه المواقف صدرت عن هيئات ومؤسسات إسلامية وازنة تدعي الإعتدال وترفض الإرهاب، لكنها تتناسى أن مثل هذه المواقف تحديدا هي التربة التي تحتضن العنف باسم الدين… لذلك ينبغي أن نتوقف عند الخطاب الديني الإسلامي تحديدا الذي توجه له أصابع الإتهام في هذا المقام، لأن أغلب العمليات الإرهابية التي عرفتها مناطق مختلفة في العالم خلال السنوات الأخيرة كان وراءها مسلمون متشبعون بالفكر التكفيري. ونقصد هنا العمليات الإرهابية التي تتبناها تنظيمات متطرفة تجند أفرادا أو جماعات للتنفيذ. وفي كل مرة تتعرض منطقة ما من هذا العالم لعمل إرهابي، لا نمل من ترديد لازمة " الإرهاب لادين ولا وطن له"… وهي عبارة صحيحة نظريا، لأن العنف ليس حكرا على ثقافة دون أخرى أو عرق دون آخر، بل هو سلوك عدواني متجذر في أعماق النفس البشرية، لكنه عندما يلبس عباءة دينية، ويتحول إلى ثقافة عدائية للآخر، يصبح الإحتماء بلازمة " الإرهاب لا دين له" تكريسا للأمر الواقع واستسلاما له، بل تبريرا له أيضا… وذلك في الوقت الذي يدرك الجميع أن الإرهاب هو فكر إقصائي وعقيدة متطرفة قبل أن يتحول إلى سلوك عنيف… لذلك فالتعاطي الأمني لوحده لا يمكن أن يستأصل هذه الآفة، لأن المطلوب هو محاربة مسبباتها ومقدماتها قبل نتائجها.