لا حديث هذه الأيام إلا عن المؤتمر الذي ينعقد حاليا في البحرين لتدارس السلام في الأرض المحتلة والذي يبشر بإيجاد حل عادل للصراع مع الكيان الصهيوني ويركز على البوابة الاقتصادية لتحقيق هذه الغاية عبر خلق ازدهار اقتصادي في عموم المنطقة، مما سيسهم حسب زعمهم في رفاهية الشعب الفلسطيني. طبعا هذه النغمة سبق عزفها من قبل وإن حاول عرابو هذه الخطة الإيحاء على أنهم بصدد شيء جديد ونقلة نوعية قد تقطع مع معاناة الفلسطينيين، فمع كل مبادرة تطرح للتداول إلا وتقدم الوعود بتحسين أوضاع الإنسان الفلسطيني الاقتصادية قبل السياسية، ولنتذكر تلك الوعود المعسولة التي كانت تنفق بسخاء لجعل غزةسويسرا أخرى زمن أوسلو أو ما قيل بعدها في خطة دايتون للسلام لمدن الضفة المحتلة، لذلك فما الجديد الذي يثير في القصة حتى تخلق كل هذا التذمر والاحتجاج؟ الحقيقة ألا جديد في الموضوع، ولأن الأمر كذلك فإنه أدعى لكي نضع أيدينا على قلوبنا، فقد كانت مثل هذه المحطات المكررة فرصا ذهبية للجانب الصهيوني لقضم جوانب من حقوق الشعب الفلسطيني في كل مرة، فمن كامب ديفيد إلى مدريدوأوسلو ووادي عربة إلى المبادرة العربية إلى أنابوليس وغيرها من الطبخات، كل واحدة منها خلقت واقعا جديدا يصعب الرجوع إلى ما قبله وجعلت العرب يتحسرون على أوضاعهم السابقة على علاتها. مؤتمر البحرين لا يختلف كثيرا عن تلك المؤتمرات، لذلك وجب دق ناقوس الخطر منه خشية موجة جديدة من التنازلات لا سيما أنه يأتي في سياق زلزال ضرب المنطقة من أقصاها إلى أقصاها وقلب الأمة رأسا على عقب، والذي يهدف إلى استغلال ظروفها المأساوية من أجل إعادة صياغة شاملة لعموم المنطقة وتحديد أدوار جديدة لمختلف أطرافها فى الصراع مع الكيان الصهيوني وتثبيت معادلة أكثر إجحافا ترمي إلى الإجهاز النهائي على القضية الفلسطينية. خطورة المؤتمر أنه يلحق دولا عربية جديدة في ركب التطبيع العلني ويسعى لتوريطها في التزامات تنقلها إلى حالة العداء المباشر لحقوق الشعب الفلسطيني ويزكي مسخ وعي شعوبها الذي حاولت ممارسته في السنوات الأخيرة عبر ضرب رمزية القضية الفلسطينية وإهانة مقدساتها تمهيدا لهذه الخطوة، ولئن خسرت فلسطين كثيرا بإقامة عدد من دول الطوق علاقات رسمية مع الصهاينة فإن خسارتها ستزداد فداحة بانضمام مجموعة أخرى من الدول العربية إلى قطار التطبيع، مما يحكم خنق الفلسطينيين ويجفف منابع الدعم المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني أكثر مما كان عليه الوضع سابقا. الأسوء هو الاتفاق المعلن بين تلك الدول على غض الطرف عن كل ثوابت الشعب الفلسطيني وجعلها في خبر كان ودعم الرواية الصهيونية كاملة، ومن ثم تدني السقف المعروض على الفلسطينيين إلى القاع الذي لا قاع تحته لدرجة أن أكثر المتساهلين في سلطة أوسلو لم يجد ما يبرر به مشاركته في ورشة المنامة، وهم من أدمنوا الحضور في كل لقاء مع الصهاينة بمناسبة أو بدون مناسبة. الحقيقة أننا بلغنا مرحلة أصبح يستعجل الطرف الصهيوني قطف ثمارها عبر استثمار الأوضاع التي ترسخت محليا وإقليميا ودوليا والتي تلعب كلها لصالحه، فالانقسام الحاصل في البيئة الفلسطينية قد جعل القضية تتجزأ إلى قضايا فرعية ساهمت في إضعاف الموقف الفلسطيني، فانتقلت من معركة التحرير الشامل إلى مطلب فك الحصار الخانق عن غزة وقضية الاستيطان الذي يقطع أوصال الضفة الغربية وقضية الأسرى ناهيك عن قضية اللاجئين التي يهيء الكفن لدفنها نهائيا، كل هذا جعل الاعتقاد السائد لدى الطرف الصهيوني وداعميه أن معالجة ملفات على حساب أخرى أصبح أمرا ممكنا وأن الإنهاك الذي يتعرض له الفلسطينيون في هذه الآونة يجعلهم مهيئين لقبول الفتات المالي، وحتى إن رفضوا أو امتنعوا فورقة الضغط والابتزاز بعد سحب الحاضنة الرسمية العربية دعمها لهم كفيلة بإخضاعهم في نهاية المطاف. ذلك أن الحكام العرب حاليا يعيشون في مزاج عصبي استثنائي، فما هددت عروشهم مثلما تهدد اليوم من طرف شعوبهم، وهو ما جعلهم يهرولون للاستنجاد بحماتهم في الخارج، وكالعادة فإن فلسطين هي الثمن الذي يراد أن يدفع لتسوية أوضاعهم ولا مشكلة لديهم في ذلك، فالذي كان يمنعهم من التمادي في التآمر على القضية الفلسطينية في السابق هو موقف شعوبهم منها الذي كان يفرض عليهم مجاملتها ولو مؤقتا، أما وأن الشعوب منشغلة بجراحاتها، فالظرف في نظرهم موات جدا لفرض الأمر الواقع واستغلاله من أجل القضاء على كابوس هذه القضية التي لم يحبها طغاة المنطقة يوما. ورشة المنامة إذا ليست إلا إفرازا لوضع سياسي قاتم عشش على المنطقة برمتها، لذلك فإن مقاومتها ومقاومة غيرها من المخططات التي تستهدف فلسطين يفرض لزاما على الأمة بكل مكوناتها أن تعي أن كل معاركها حتى المحلية منها ليست في الحقيقة إلا معركة واحدة، وألا سبيل لتحررها إن لم توحد معركتها وتجعل القدس عنوانها الأبرز، فالذي ينال من أقدس مقدساتهم هو ذاته الذي يعطي الضوء الأخضر للبطش بهم.