يبدو للمتتبع أن هناك شيئاً ما يستعصي فهمه يجري في أرض الكنانة. فالجيش والشرطة سمحا للمتظاهرين بولوج الميادين وكسر حالة الحصار المفروضة على أي تحرك شعبي منذ انقلاب 3 يوليو 2013. ويأتي هذا المستجد في تحد واضح لسلطة الفريق أول عبد الفتاح السيسي و هو ما قد يعجل بالإطاحة بحكمه. لأنه كما سبق وصرح وزير الداخلية المصري السابق محمد إبراهيم عقب الانقلاب على الرئيس محمد مرسي "لا يمكن لأي حراك أن ينجح ما لم يكن مدعوماً من إحدى القوتين الداخلية أو الدفاع". وهو ما يطرح في حد ذاته أكثر من علامة استفهام حول الدوافع والتوقيت. فرغم تسريبات الفنان و المقاول محمد علي عن فساد الرئيس المصري و محيطه، يبقى عصر السيسي عصراً ذهبياً للشرطة و الجيش لا من حيث الامتيازات المالية التي أغدق عليهم بها لتثبيت حكمه ولا من حيث السلطة المطلقة التي منحهم إياها و التي جعلتهم فوق القانون و المساءلة و دولة داخل الدولة. فلماذا ينقلب عليه جزء منهم وهو ولي نعمتهم؟ هذا و إن شكلت التسريبات صدمة للرأي العام، فإن الفساد المعرى عنه من طرف محمد علي ، ليس مفاجئا لقيادات الجيش و التي تعتبر جزءاً منه ، عبر الشركات التي تسيطر من خلالها على جزء لا يستهان به من الاقتصاد المصري ، كما أورد ذلك المحلل الفلسطيني يزيد صايغ في دراسته "فوق الدولة : جمهورية الضباط في مصر". فموقف المؤسسة العسكرية يوحي بأن بداخلها جناحاً يسعى للتخلي عن الرئيس دون أن يفصح عن ذلك علانية مما يكسبه هامشاً من المناورة إن جدت في الأمر أمور. ويبقى السؤال الملح هو لماذا الانقلاب على السيسي الآن؟ وللإجابة هناك احتمالان: الأول هو أن التضحية بالسيسي ما هي إلا مقدمة لمصالحة شاملة مع الإخوان وباقي الطوائف السياسية في مصر، خاصة مع خروج الرئيس مرسي والشرعية التي يمثلها من الصورة. إذ يُلاحظ أن المقاول محمد علي يحصر في فيديوهاته المشكل في السيسي ويجنبه لهيكل المؤسسة العسكرية رغم أنها أكبر مستفيد مما يتهم به محمد علي الرئيس المصري. لكن يبدو أنه قد تبين لصناع القرار الدوليين والإقليميين أن مهمة السيسي الأولى في سحق تيار الإسلام السياسي أصبحت ذات تكلفة باهظة وقد تأتي بنتائج عكسية على المستوى الشعبي بحكم القاعدة العريضة للإخوان في مصر وقد تدخل البلد الأكبر في العالم العربي المجهول. فخيار المواجهة الشاملة والمستمرة بلا هوادة مع الإسلاميين قد يفضي إلى أفغانستان أو صومال أو يمن جدد على بضع كيلومترات من أوروبا. ولكن إعادتهم إلى المشهد بعد تقزيم حجمهم وإضعافهم كما حدث في الجزائر بعد العشرية السوداء وفي المغرب بعد انتفاضات الربيع العربي تعد أقل الخيارات كلفة وأدومها. خاصة وقد أصبح سقف طموحهم الإفراج عن المعتقلين والتقاط أنفاسهم والمشاركة في الحكم مع باقي الأطياف دون الانفراد به. لذا فهذا هو التوقيت الأمثل لتقديم السيسي ككبش فداء يُحَمَّلُ كل خطايا المرحلة السابقة، خاصة وأنه قدم خدمات جليلة أخرى لداعميه في قضية تيران و صنافير و سد النهضة و التنازل عن حصة مصر من الغاز في شرق المتوسط و إخلاء منطقة رفح و الشيخ زويد في سيناء و تدمير الأنفاق التي كانت تعتبر المتنفس الوحيد للمقاومة الفلسطينية و التي نُعتت بالإرهاب لأول مرة من طرف نظام عربي في عهد السيسي. والأهم من ذلك كله هو تغييره لعقيدة الجيش المصري من محاربة إسرائيل إلى محاربة الإرهاب. والخلاصة أنه قد أُستهلك شعبيًا ولم يعد بإمكانه تقديم المزيد من الخدمات حسب المؤرخ المصري محمد إلهامي، الذي يرى أنه إذا كان السيسي قد مرر كل هذه التنازلات تحت يافطة الحرب على الإرهاب، فإن من سيخلفه سيقدم تنازلات جديدة سيقبلها المصريون تحت عنوان عودة الاستقرار و إدخال البلاد في حالة استرخاء بعد سبعٍ عجافٍ مورست فيها على الشعب المصري عقيدة الصدمة في أعنف تجلياتها، كما نظَّرت لذلك الكاتبة الأمريكية ناومي كلاين. أما الاحتمال الثاني، وهو المرجح لدينا، هو أن ما وقع في مصر من احتجاجات شعبية ما هو إلا ضغط نفسي على السيسي لحمله على تنازلات أكبر فيما بات يعرف بصفقة القرن و ملف سد النهضة ، خاصة و أن الرئيس المصري بعد أن استتب له الأمر أبان عن فتور تجاه الأولى و بدأ يتنصل منها تدريجياً. ويحضرنا في هذا الصدد تهديد جاريد كوشنر صهر ومستشار الرئيس الأمريكي وعراب هذه الخطة للرؤساء العرب الذين قد يعترض بعضهم عليها بأن "عروشهم و كروشهم ستصبح في خطر". كما تُذَكِّرُ تأكيدات ترامب الأخيرة على متانة العلاقات الأمريكية المصرية و وقوف الولاياتالمتحدة بقوة إلى جانب السيسي ، بالتعهدات التي قدمتها هيلاري كلينتون لحسني مبارك إبان اندلاع ثورة 25 يناير 2011 بمساندته. والكل يعلم ما حدث بعد ذلك وكيف تخلت أمريكا عن أحد أخلص حلفائها والذي كانت تعتبره إسرائيل كنزاً استراتيجيا. كما أن تسريب بعض المواقع العبرية المقربة من دوائر القرار في الكيان الصهيوني في هذا الوقت بالذات (14 شتنبر 2019) لتقارير عن يهودية والدة السيسي وعن استقدام هذا الأخير سراً لحاخامات يهود من أجل الصلاة عليها و نقل جثمانها للدفن في إسرائيل، تصب في خانة تعرية الرئيس أمام الرأي العام المصري و العربي و حشره في الزاوية دون أي سند شعبي. فرفع الداعمين الدوليين أيديهم عنه في هذه الظروف عبر انقلاب داخلي كما حدث مع مبارك يعني بالنسبة إليه واحدة من ثلاث إما محاكمة عسكرية كمبارك ومرسي أو النفي كالملك فاروق أو التصفية كعبد الناصر والسادات. لذا يرى عدد من المراقبين أن ذهابه في هذه المرحلة الدقيقة بالذات إلى الولاياتالمتحدة والشارع المصري يغلي، مؤشر على الضغوط التي يتعرض لها وللإعداد للمرحلة القادمة. فقبوله بما يُطلب منه يعني أن الجيش قد يتدخل بقوة لفض المظاهرات كما حدث في ميدان رابعة والنهضة أو التهيئة لعملية مصالحة سياسية تضمن خروجاً آمناً للطغمة الحاكمة الحالية. ماذا و إلا سيصبح عبد الفتاح السيسي الرئيس المخلوع الثالث لمصر في أقل من عشر سنوات في مشهد ميلودرامي وصفه المتبني بدقة حين قال : وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا *عضو حركة معاً ومدير مجموعة الأبحاث الجيوسياسية والجيوإقتصادية المدرسة العليا للتجارة والأعمال – الدار البيضاء