في بداية اتصال المغاربة بعالم الصوت والصورة، كان المخرج والمنتج المغربي متأثرا بالجو العام آنذاك في محاولة الذوبان في الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج، فقد كان الحرص على التعبير بلغة عربية معيارية أو بدارجة قريبة من اللغة المعيارية، فلغة الإشهار وأزياؤه لمن يذكرها أو لمن عاد إليها في نوسطالجيا الإذاعة الوطنية يدرك قليلا أو كثيرا مما أشرت إليه، بل إنه على التحديد لم تكن الدارجة الرسمية قد تجلت تماما كما هو حادث اليوم. وقد كان أكبر تتويج للغة الدارجة هو الشكل التعبيري للظاهرة الغيوانية؛ حيث الحرص على انتقاء اللفظ الدارج الجزيل والتقرب ما أمكن من اللفظ العربي الفصيح، وبه امتد التعبير إلى المحاولات الأولى للفنون المغربية من مسرح وموسيقى، لكن العامية ظلت مستبعدة. وإذا كان يقصد بالدارجة اللغة التي يتحدثها الشخص مستعملا أو مغلبا النحو العامي، وينتقي ألفاظه مزاوجة للتعبير عن الثقافي والمعرفي، فإن العامية يقصد بها التعبير من غير تحفظ، فيتحدث الإنسان طبيعة عن كل ما يخالج نفسه من المعرفي واليومي مزاوجة بين لغة أو لغات _لا يهم ذلك_، وعليه فالدارجة مثل العربية المعيار أقدر على التعبير عن الثقافي والمعرفي لكنها تبقى عاجزة عن التعبير عن اليومي إلا استراقا من العامية، وعلى خلاف ذلك أيضا فإن العامية أكثر قدرة على التعبير عن اليومي، لكنها تبقى عاجزة عن التعبير عن الثقافي إلا استعانة بالنسق اللفظي والسياقي المعرفي للغة المعيار. لقد نشأ الأدب المغربي في جانبه الإبداعي وكانت له مساهمات في التماهي أو التوازي مع الأدب العربي والعالمي، وقد امتد هذا حتى إلى التأليف والنقد في التعبيرات الدارجة للشعر والمسرح والموسيقى، حيث لا يجد الناقد فرقا في نقد الكلام بالكلام مادام أن المبدع يكتب وهو مشرئب بعنقه إلى العربية المعيار، ولكني لا أظن أن أحدا التفت للتعبير العامي خاصة في موسيقى الشباب من الراي والواي واي والراب…فالجميع ينظر إلى هذه الأشكال التعبيرية الشعرية كضرب من الأدب المنحط، تماما كما كان ينظر من قبل للتعبيرات الثقافية التراثية. إن دارس النقد والمهتم به ينسى أو يتناسى أن ما يسمى أدبا عالميا هو في شق كبير منه لم يكن أدبا ولا أشكالا تعبيرية بورجوازية ولا رسميىة فقط، فهي في الغالب تعبيرات عن يوميات الشعوب وتفاصيل حياتها، فلا أحد ادعى يوما أن الشكل التعبيري لزم أن يكون بهذه اللغة أو على هذه الشاكلة أو في هذا الحد، فالأدب أو الشكل التعبيري حده الإبداع، وشرطه خلق المجازات، والقدرة على التصوير والتخييل والغرابة، وليس شيئا آخر…فهل استطاع الراب أو قصيدة الراب بالتحديد فعل ذلك؟ إن الناقد وظيفته البحث عن العلاقة المفترضة بين النص والمتلقي، أي ماذا يحمل النص وما يمكن أن يقوم به في تفاعل مع المتلقي، وهذا للأسف ما لم يشأ أن ينتبه إليه الناقد المغربي، ربما لسبب أو أسباب قد تلخص في أن الناقد ما يزال حبيس الصالونات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية، وأن صورة المبدع ما تزال في مخيلته ذلك الذي له صورة محددة، ويتحدث بطريقة محددة، أو أن الناقد ربما يخشى أن يظن به الظنون حين يدعو إلى الاهتمام بشكل تعبيري ينتجه شباب يصنفون في خانة السفلة والممحوقين. فالناظر لما ينتجه الشكل التعبيري الشبابي، والعارف بالنقد، يدرك أن شعر الراب أو قصيدة الراب تستطيع في كثيرها أن تنضبط للمعايير بما تعجز عنه القصيدة الفصيحة والزجلية الدارجة، وأنه إذا كانت القصيدة الواقعية لها شروط يعلمها العالمون؛ مثل الموقف من الواقع والوجود والسلطة وأحوال الناس والتيه في عوالم المادة، فإن قصيدة الراب استطاعت أن تحقق هذه الشروط بميزات عالية، وبما عجزت عنه القصيدة الفصيحة. فإذا أخذنا مثلا قطعة " بطل العالم" للرابور ‘حليوة' حيث أعتبرها أعلى مراتب التعبير العامي، ولا أدري إن كان هو من كتبها أم غناها فقط على اعتبار أنه لم يعد بعدها للكتابة بقوتها، فإذا أخذناها واستمعنا لها، يشعر الناقد أنه يحضر فيها كل شيء، ويحس لأول مرة أنه أمام قصيدة عامية مغربية تأخذك إلى كل العوالم بمجازات وانزياحات وتشبيهات عالية في الدقة والتصوير، وبمعجم غارق في الواقعية والتخييل من البداية حتى النهاية، حيث لا يتوقف العقل عن التأويل ومحاولات التأويل بعيدا جدا عن الخطابات المباشرة المألوفة، وهذا شكل لا يمكن أن تلمسه في الفصيح إلا في شاعر كبير مثل محمود درويش. يستطيع الشباب إنتاج عشرات بل مئات المقطوعات، بعضها يقترب من شعر الزجل وبعضها يغرق في العامية، بإبداع نصوص قوية يحضر فيها التشبيه والرمز وتحتاج إلى ثقافة لفك شفراتها مثل ما نجده عند رابور آخر هو "الموتشو موبيديك" حيث يستطيع أن يحافظ على مستواه وينتج بغزارة وبنفس الدقة ، حيث ينبري للحديث عن الواقع بأسلوب مزاوج بين الفكاهة ومعالجة الواقع، وهو ما يتطلب جمهورا من نوع خاص ظل يشتكي منه الموبيديك في كثير من مقاطعه، فهو يرجع عدم وصول مقاطعه لملايين المشاهدات على اليوتوب إلى طبيعة المتلقي الأمي المتكدس على موسيقى لفناير كما قال، أو ما سماهم ب ‘حموكن'. فجمهور الراب ليس مستوى واحدا، وإنما هو مستويات، فأغلب المقبلين على الاستماع للراب ليس بمقدورهم استيعاب كلمات تتطلب إمكانيات معرفية قبلية. يتكون الراب من موسيقى ثم من كلمات، حيث المقاطع القصيرة التي لا تتطلب وزنا بقدر ما تتطلب إرضاء لأذن السامع بانتهاء الكلمات بروي مثل ما يفعل ‘ المورو' ، فالموسيقى الداخلية ضرورية جدا، كما أن إدراج الاشتقاقات والجناسات والطباقات هو من ضروريات النص الناجح، فيجعل المتلقي شديد الانتباه والإصغاء وله رغبة في الحركة، وهذا ما يجعل موسيقى الراب صديقة قديمة لتعبيرات الهيب هوب . بل إن محاولة إرضاء الجمهور والبحث عن المال والمشاهدات جعلت الراب يميل إلى الشكل الاحتفالي حيث الانتصار للنغمة على حساب الكلمة، وهذا على خلاف المدرسة الأولى للراب. وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فإن جمهور الراب ربما لا تستهويه الكلمات بقدر ما يبحث عن الموسيقى الداخلية؛ حتى أن يستمع لمقاطع من لغة لا يفهمها، وهو ما يجعل الشباب غالبا يميل بشكل أكبر إلى محترفي صناعة المقاطع مثل مدرسة الدارالبيضاء بعد الدونغ بيغ. ورغم أن النص قد يكون ضعيفا فإن الصناعة الاحترافية للمقاطع الموسيقية تخلق للقطعة قبولا لدى الجماهير. وقد يحصل العكس لمن يبحث عن الكلمات البسيطة والخطاب المباشر الذي لا يتطلب أدنى ثقافة مثل ما تحققه مدرسة طنجة أو مدرسة فاس، وهو ما أدى إلى الانتشار السريع لقطعة عاش الشعب ذات الخطاب المباشر والبسيط، فالمتلقي المغربي لا يحبذ اللغة الغارقة في التأويل بقدر ما يبحث عن الفرجة بخطابات بسيطىة تنادي الجسد وليس العقل. وأنا إذ أتحدث هنا عن الأدب والميزان لا يهمني بشكل أكبر إلا النص، فالراب هو بالدرجة الأولى قصيدة كما يدل على ذلك حرف " P " ، فنحن أمام قصيدة غنائية لا ينقص منها شيء، تبحث فقط عن نزع الاعتراف بها نقديا، رغم أنها تندرج ضمن أشعار الحشاشين، والماجنين، والصعاليك، والتي تتضمن في بعضها ألفاظا يصنفها المجتمع في الفاحش، والنابي، و العنيف، وربما هذا هو الذي يجعل مدرسة طنجة تلقى قبولا لدى الجمهور رغم ضعف نصها، إذ ان لها جمهورا خاصا. لكن المطلع الأديب الأريب يعي باطلاعه أن الشعر لم يكن في يوم من الأيام صديقا للأخلاق، فالمدرسة الأخلاقية داخل الأدب أو التي تجعل الأخلاق وصية على الأدب ربما هي مدرسة ضعيفة داخل الأدب العربي حتى في عصر سيادة الدين في صدر الإسلام، فالأدب على الأقل إن لم يكن مقيدا بواقع أو واقعة فهو على الأقل تعبير عن الواقع بلغته خارج أي وصاية، وهذا ما يجعل الماجنين داخل الراب المغربي أكثر قدرة على الحبك والسبك الجيد. الراب ليس قصيدة فقط ونص محبوك، بل هو أيضا قوة في الأداء، فالشاعر الجيد لا تنتهي مهمته فقط في الكتابة وصناعة المقاطع، ولكن الأداء ضروري ومطلوب، وقد يغطي هذا حتى على ضعف النص عند من ليس لهم الإمكانيات للتصوير من الشباب المبتدئ، وهي شروط قريبة مما كان يتطلب في الخطيب قديما، بل إن الراب هو خطاب أكثر منه نص. لا يسع الحيز ولا الزمن هنا لقول كل شيء، ولا الوقوف عند كل مدرسة على حدة، لأن ذلك يتطلب مجهودا كبيرا جدا لغزارة الإنتاج وقوة النصوص، مما يعني أننا نحتاج إلى وقفات ووقفات لاستكناه هذا الشكل الإبداعي بما يحمله من مشاعر وتعبيرات، فالجيل الناشئ يتأدب بالراب ويقتدي بكلام الرابورات، وهذه أمور لا يجب إغفالها.