وتنفجر وسائل الإعلام انفجارا، وتفيض القنوات بالغثاء ( والقنوات أنواع وأشكال، مهمتها أن تصرف ما بجوفها إعلاما أو أشياء أخرى)، ويغلب الغث السمين حتى لا تجد سمنا ولا سمينا ، وتفيض شبكة العناكب بالرداءة والقبْح والطلْح، وتجد مروجي الخنا يعتلون الأروقة والدواوين وأمامهم حشد غفير من السوقة والعامة والهتاّفين. إن المرء ليكاد ينفطر عقله أمام حواة المسخ والسلخ والبلخ، وينكدر خاطره أمام هذه الشرذمة من عجائب الزمن، أمام الأفيون المطل من منصات الإعلام ، فلا الهيئة مقبولة ولا اللغة مجزولة ولا الفكرة معدولة ، ما يشبه القيء والارتجاع يلقونه، فيتلقفه الهتّافون أصحاب العقول الضحلة والأفئدة الخاوية أو لا عقول. والعتب واللائمة على محترفي النقر والإعجاب بالخساسة والوضاعة، يحسبون كل ذي فيهٍ بشرا. في الماضي غير البعيد كان أمر المنبر ذا شأن، أمر لم يكن متاحا لكل من يملك حبلين صوتيين. كان اعتلاء المنبر متاحا فقط في المساجد وحفلات المدرسة ومنصات الأحزاب وشاشة التلفزة الوحيدة آنئذ، ولم يكن منظار الرقيب ببعيد. كانت المؤسسة تحرس وتراقب، مصفاة تنتقي وتجيز وتمنع كل ما من شأنه، فكان الجمالي محكوما هو الآخر (إلى حد ما) بعيون ذلك الغربال، يطاله ويقص ويمنعه من المنصة أو أن يطل على الناس ، وفي هذا القص والحصر يُحصر كم هائل من الغثاء والركاكة، التي يتم تصريفها في مجالس مغلقة لا حس لها غالبا ( هذا لا يعني أن المؤسسة لم تكن تنشر الرديء وتشجعه). فلم تكن للناس منصة ولا بوق ولا حائط ولا مدونة ولا موقع ، كان حبل النشر محكوما إحكاما شديدا، وكان السري أوالمعارض بالكاد يُمرر خفية أو يُلصق في جوف الليل ، قبل أن تقتلعه العيون الحارسة قبل أن يفيق الناس، أو ينشر كلامه في بلاد بعيدة ، لن يعرف عنها أوعنه أحد. كان أمر حبل نشر، أمرا ذا شأن وأي شأنٍ. كانت مجالس النساء المغلقة في الأعراس لا تتيح فرصة الغناء إلا للتي لها حظ منه وحظوة ، ولا يلقي الخُطب في المناسبات إلا من قارع المنابر وقهر الحناجر، حتى أن الاقتراب من المِجهار (الميكروفون) كان حلما بالنسبة للكثيرين، ومن يظهر على الشاشة أو يُسمع في المذياع، كان أشبه بنجم نزل توا من السماء، يحاذيه الناس ويصوّرونه معهم. أما اليوم فقد كثر اللغط واختلط الهارج بالمارج، وفاضت الدنيا بالأفواه ماضغة الكلام، وحوصر الناس بالرديء والمجّ والسخيف والعييّ. (لا نقصد تكميم كل فيه، ولكننا أبدا ضد التافه السفيه). هذا الهوج الإعلامي يعني شيئا واحدا، يعني التطبيع مع القبح والرداءة. فقد ولى عهد الفنون الجميلة، والكلمة اليوم للفنون القبيحة ( وهل في الفن قبيح) ، والأدهى أن الاستئناس بالرديء والتألف مع السمج يورثان حسا بليدا ، وفكرا ضحلا. للظاهرة امتداد عالمي ، فلا حدود للغثاثة والرداءة، ولكل قوم سفاؤهم ( ليس في الأمر تحقير ولا تنقيص، لكن حجم التبليد والفدامة يفرضان حدة الخطاب) لكن ذلك لا يجيز أن نعدّ الأمر طَبَعِيا، وأن نفهر أفواهنا أمام علب القبح والسُّخف، فقد يُوسّع من حدّ الجميل والمقبول ، لكنه أبدا لن يسمح بمرور التافه والمَرَضي والمبلّد، أو على الأقل فلن يقبل به المتلقي، بما هو متلق واع وناقد وطرف أساس في الفعل الإبداعي.