في عام 2005، التقيت في بهو فندق المنصور في بغداد، بسيدة أمريكية في مقتبل العمر. كانت ساعة بدء حظر التجول قد دقت منذ قليل، عندما ابتسمت السيدة في وجهي وهي تعبر البهو وقد أحاط بها من كل جانب حراس مدججون بالأسلحة. كنت يومها أحاول الوصول إلى أمريكي ما، لآخذ منه تصريحا أستكمل به تقريرا تلفزيونيا عن أحوال العراق آنذاك. بادرت تلك السيدة ونحن نقف في طابور العشاء في مطعم الفندق. ضحكت لما عرفت ما أريد منها، وأخبرتني بأنها أيضا تعمل لحساب مؤسسة تلفزيونية، ولا يمكنها أن تدلي بتصريحات صحفية. وبما أن "الله يحب العبد الملحاح" كما يقال، ألححت في سؤالها، متجاهلا النظرات الجهنمية التي كان يقصفني بها حراسها. ابتسمت تلك الأمريكية مرة أخرى في وجهي، ووافقت على أن نتقاسم طاولة العشاء، ولكن برفقة واحد من قومها المسلحين. أخبرتني أنها مهندسة، وجندية سابقة، وبأنها تشرف على إعادة ترميم وتشغيل مبنى التلفزيون العراقي، بعد أن طاله تدمير شبه كامل بفعل القصف الأمريكي. لم أتمالك نفسي، ولا ردة فعلي التي فاجأتني أنا، كما فاجأتها هي، وأنا أقول لها: أنت إذا من أولئك الذين يدمرون شيئا ما، من على بعد أو من علياء السماء، ثم يأتون في جبة جديدة لإصلاحه وترميمه وإعادة تشغيله. ضحكت ملء شدقيها، وأجابتني بكل هدوء: تماما، أنا منهم. تذكرت هذه الواقعة وأنا أطالع فقرات من كتاب صدر عام 2007 عنوانه "عقيدة الصدمة" للكاتبة والناشطة الاجتماعية الكندية ‘نعومي كلاين'. تفكك ‘كلاين' في كتابها نمط التفكير الرأسمالي الجديد في كيفية التعامل مع تبعات الأزمات والحروب في عصر العولمة. وللكتاب عنوان فرعي مثير ومعبر في نفس الوقت: "بروز رأسمالية الكارثة". في الفقرة التي عادت بذاكرتي إلى ذلك الفندق العراقي، تقسم كلاين سياسة إدارة الأزمات في النظام الرأسمالي إلى قسمين أو مرحلتين. تتعلق المرحلة الأولى بإدارة الأزمة – من طرف الحكومات – أثناء حدوثها، سواء تعلق الأمر بإعصار جوي أو زلزال أو انهيار اقتصادي أو نزاع مسلح أو وباء فيروسي. أما المرحلة الثانية للكارثة، فتبدأ مع ما تقوم به الطبقة الماسكة بالسلطة من إصلاحات اقتصادية، ومن استغلال لفرص جمع الثروات في غفلة من بقية الخلق، وهم الغالبية، والذين يكونون غارقين في آلامهم، يحاولون استيعاب هول الكارثة التي حلت بهم. بل إن ‘كلاين' تذهب إلى أبعد من ذلك كما يشرح الكاتب الصحفي ‘بيتر سي بيكر' في مقالة نشرها مؤخرا بجريدة الغارديان تحت عنوان "كيف ستغير كورونا العالم"؛ حيث يكتب أن الناشطة الكندية تحاول في كتابها تأكيد فرضية أن الماسكين بزمام الأمور يقومون أحيانا بصناعة تلك الكوارث أو يتسببون في حدوثها. فهل يا ترى، سيترك سكان كوكب الأرض الموجودون حاليا في بيوتهم لدرء خطر تفشي فيروس كورونا، هل سيتركون الفرصة مرة أخرى للماسكين بزمام الأمور لكي يستمروا في نهج نفس السياسات في اليوم الموالي، بعد انحسار العدوى، إن هي انحسرت؟ هل سنتركهم يفعلون كما فعلوا غداة الأزمة المالية لعام 2008؟ ألم يحن الوقت لكي يطالب المواطنون – في كل البلدان – بعكس تلك الآية، أو لنقل تلك القاعدة الرأسمالية التي حكمت النظام العالمي منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما قصمت مارغريث ثاتشر ظهر النقابات البريطانية، قبل أن تعلن نهاية مفهوم المجتمع مكتفيه بمفهوم الفرد؟ ليتبعها رونالد ريغان، وبعده جورج بوش الأب، بإعلان نهاية دولة الرفاهية وانتصار القطاع الخاص في كل المجالات، دون أي استثناء كان. حتى وإن كان استثناء يؤكد القاعدة، كما يقال. قاعدة أساسها تشارك الخسائر وتقاسمها بين جميع شرائح المجتمع في فترة الأزمات، وتخصيص الأرباح لفئة بعينها عندما يسود "النمو الاقتصادي" العزيز على قلوب فقهاء النظام الليبرالي الجديد أو المتوحش، وخبراء صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي وبنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي. اشتراكية في زمن القحط والوباء، ورأسمالية في زمن الرفاهية وصعود البورصات. لقد أعاد وباء كورونا الدول والحكومات إلى الواجهة، أعادها وهي تتخذ القرارات تلو الأخرى لتأمين تموين الأسواق، وتوفير الأوراق المالية في الشبابيك الأوتوماتيكية، ودفع رواتب شهرية لمن فقد عمله أو قوت يومه. فهل نترك حليمة تعود إلى عادتها القديمة بعد انحسار الوباء؟ وهل نعطي من جديد فرصة أخرى إلى قطاع خاص لا يهمه – وهو محق في ذلك – إلا هامش الربح الذي سيحققه، لكي يعيد بناء ما حطمه جشع "اليد الخفية للسوق"؟ تماما كما قالت لي تلك السيدة الأمريكية في بغداد. أم أننا، ومعنا حكامنا، سنتعلم الدرس هذه المرة، ونحفظه عن ظهر قلب؟.