المدير العام لمنظمة "FAO" ينوه بتجربة المغرب في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والغابات تحت قيادة الملك محمد السادس    طريق المغرب للتحول إلى "بلد البترول والغاز"!    "أشبال الأطلس" يستهلون مشوارهم في بطولة شمال إفريقيا بتعادل مع الجزائر    أمن بني ملال يطيح بشخص يتربص بأطفال قاصرين أمام المدارس    وزيرة الشؤون الخارجية الليبيرية تنوه بمستوى العلاقات التي تجمع بلادها بالمغرب    غوغل تطرد 28 من موظفيها لمشاركتهم في احتجاج ضد عقد مع إسرائيل    إيران تتوعد إسرائيل: "ستندم" على أي هجوم    مصرع قائد الجيش الكيني في تحطم مروحية    مدير "الفاو" يحذر من تفاقم الجوع بإفريقيا ويشيد بالنموذج المغربي في الزراعة    الدكيك: نستعد لمواجهة ليبيا بجدية كبيرة    مجلس النواب ينتخب أعضاء المكتب .. وخلافات تؤجل الحسم في رؤساء اللجان    تلميذ يرسل أستاذا إلى المستعجلات بتزنيت    شاهدها.. الإعلان عن أحسن صورة صحفية لعام 2024    ما هو تلقيح السحب وهل تسبب في فيضانات دبي؟        لماذا يصرّ الكابرانات على إهانة الكفاح الفلسطيني؟    بوركينا فاسو تطرد 3 دبلوماسيين فرنسيين    الحكومة ستستورد ازيد من 600 الف رأس من الأغنام لعيد الاضحى    طنجة: توقيف شخص وحجز 1800 قرص مخدر من نوع "زيبام"    بوريطة يشيد بمواقف ليبيريا الثابثة في قضية الصحراء المغربية    مجلس الحكومة يصادق على مشاريع وتعيينات    مطار حمد الدولي يحصد لقب "أفضل مطار في العالم"    نجوم مغاربة في المربع الذهبي لأبطال أوروبا    نهضة بركان يحل ضيفا على اتحاد الجزائر يوم الأحد في نصف نهائي كأس الكاف    المغرب متراجع بزاف فمؤشر "جودة الحياة"    البيجيدي يجدد الثقة في بووانو رئيسا لمجموعته النيابية    واش تنادم معهم الحال حيث شافوه محيح مع العين؟ نايضة فالأهلي المصري بسبب سفيان رحيمي    ما الذي قاله هشام الدكيك قبل المواجهة الحاسمة أمام ليبيا؟    السفينة الشراعية التدريبية للبحرية الألمانية "غورتش فوك" ترسو بميناء طنجة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المغرب وليبيريا يجددان التأكيد على مواصلة تعزيز تعاونهما الثنائي    هل تغير أميركا موقفها بشأن عضوية فلسطين بالأمم المتحدة؟    تاجر مخدرات يوجه طعنة غادرة لشرطي خلال مزاولته لمهامه والأمن يتدخل    أصيلة.. توقيف ثلاثة أشخاص للاشتباه في ارتباطهم بالاتجار في المخدرات    فدوى طالب تكشف موعد عرض "مروكية حارة" بالقاعات السينمائية    منير بنرقي : عالم صغير يمثل الكون اللامتناهي    هل يتراجع "الكاف" عن تنظيم نسخة جديدة من "السوبرليغ" في 2024؟    تقرير دولي يكشف عن عدد مليونيرات طنجة.. وشخص واحد بالمدينة تفوق ثروته المليار دولار    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    عزيز حطاب يكشف ل"القناة" حقيقة عودة "بين القصور" بجزء ثانٍ في رمضان المقبل!    رونالدو يكسب يوفنتوس في ملف تحكيم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أكادير تحتضن الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ    تنظيم الدورة الثانية لمعرض كتاب التاريخ للجديدة بحضور كتاب ومثقفين مغاربة وأجانب    بينهم سوري.. عقود عمل وهمية والإتجار بالبشر يطيحان ب5 أشخاص في فاس    "نتفليكس" تعرض مسلسلا مقتبسا من رواية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب هذه الدولة        قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    وزارة الصحة: حوالي 3000 إصابة بمرض الهيموفيليا بالمغرب    أرقام رسمية.. 3000 مغربي مصاب بمرض "الهيموفيليا" الوراثي وها شنو موجدة وزارة الصحة لهاد النزيف الدموي    عينات من دماء المصابين بكوفيد طويل الأمد يمكن أن تساعد في تجارب علمية مستقبلاً    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر حوارات اليوسفي: عندما قال لي الحسن الثاني نحتاج إلى برلمان يوجد به أصحاب “شيكات”
نشر في لكم يوم 29 - 05 - 2020

يندرج هذ الحوار الصحفي المطول، الذي لربما يعد الأول الذى يجريه المرحوم عبد الرحمان اليوسفى الكاتب الأول السابق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، منذ محاضرته الشهيرة في بروكسيل سنة 2002 ، حول المرحلة التي قاد فيها حكومة “التناوب التوافقي” والتي انتهت فصولها بالتراجع عن “المنهجية الديمقراطية”، واعتزاله العمل الحزبي والسياسي.
ويعتبر هذا الحوار الذي أنجزه الزميل جمال محافظ، عام 2016، من بين آخر الحوارات الصحفية التي أجراها اليوسفي الذي عرف عنه قلة كلامه وتصريحاته منذ أن قرر اعتزال السياسة.

ويندرج هذا الحوار، الذي خص به جمال محافظ موقع “لكم” ضمن فصول بحثه لنيل شهادة الدكتوراه حول “الصحافيون المغاربة والأداء النقابي في الاعلام”، وكان من بين نماذجه النقابة الوطنية للصحافة المغربية التي كان عبد الرحمان اليوسفي من بين مؤسسها في يناير سنة 1963 بالرباط، وعضوية مكتبها الوطني الأول كنائب للكاتب العام الذى كان هو عبد الكريم غلاب (1919 –2017).
ويكشف الحوار عن جانب هام من حياة اليوسفي ظل مغفلا في البحث والدراسة، متمثلا في ممارسته للصحافة التي تعرض بسببها للاعتقال والمحاكمة، من موقع رئاسة تحرير جريدة “التحرير”، التي كان يصدرها “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، ويتولى ادارتها محمد (الفقيه) البصري ( 1925- 2003).
وفيما يلي النص الكامل للحوار الذى جرى في يناير 2016 بشقة الراحل، بالطابق الثالث لإحدى عمارات أحياء مدينة الدارالبيضاء التي كان يقيم بها بعد اعتزاله العمل السياسي، إلى أن وافته المنية.
الشكر العميق على إتاحتكم الأستاذ عبد الرحمان لهذه الفرصة لإجراء هذا الحوار الذي لن يكون إلا ممتعا وغنيا وصريحا مع رجل ومجاهد قائد ورجل دولة يدين له الجميع – مهما اختلفوا معه – بأياديه البيضاء على هذا الوطن.
سأحاول أن أتطرق معك لجانب واحد من حياتك الغنية والمتنوعة التي شملت الجوانب السياسية والاجتماعية والحقوقية. ويتعلق الأمر بالصحافة وبالتحديد النقابة الوطنية للصحافة المغربية وبتحديد أكبر خلال مشاركتكم في تأسيسها مع ثلة من الصحفيين المديرين سنة 1963، وأنتم تتولون رئاسة تحرير جريدة التحرير الناطقة باسم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولكن قبل ذلك كيف جئتم إلى مهنة الصحافة؟
كان لي أخ يشتغل في إحدى المطابع، وكان يدرس في كوليج مولاي يوسف ولم يتمكن من استكمال دراسته من أجل امتهان التدريس، فعاد بعد ذلك إلى طنجة ومكنته درايته بشيء من اللغات الأجنبية خاصة الفرنسية والإسبانية والعربية، من الاشتغال في مطبعة إسبانية تتولى طبع عدد من الجرائد.
وعندما يعود إلى المنزل لتناول وجبة الغذاء، يحمل معه بعض الأعداد من هذه الجرائد وعندما يطالعها ويعود إلى عمله بالمطبعة، كان يتركها جانبا على المائدة الأمر الذي كان يتيح لي فرصة الاطلاع عليها فكان هذا هو أول لقاء لي مع الصحافة.
فعندما كان عمري آنذاك 12 سنة أي بالضبط في 1936 وهي السنة التي تقدمت فيها لاجتياز الشهادة الابتدائية، وباعتبار كوني ابن طنجة التي كانت في ذلك الوقت تخضع لنظام دولي بها جالية إسبانية كبيرة، فقد عشت آنذاك أجواء الحرب الأهلية التي وقعت في إسبانيا من خلال ما تنشره وسائل الإعلام من تطورات هذه الأحداث التي كانت تجد صداها بالمدينة، حيث كان السكان وأنا معهم نتابع تفاعلات هذه القضية.
وذات مرة، طلب مني والدي أن اشرح له ما كتبته جرائد أخي الموضوعة على الطاولة خاصة ما يتعلق بالأخبار المتعلقة بتطورات الحرب الأهلية الإسبانية. كانت تلك أول مرة أتجرأ وأتصفح الجرائد التي كان أخي الأكبر كعادته يشتريها ويأتي بها للمنزل، فقرأت على الوالد رحمه الله مضامينها التي كانت تواكب مجريات الأحداث وتحركات الجنرال فرانكو.
فلما كنت غارقا في الترجمة من الاسبانية للعربية ما جاء في الصحيفة، نهرني وقال لي ساخرا، هل هذا هو مستوى الشهادة الابتدائية. أرجوك لا تترجم لي اقرأ لي فقط ما جاء فيها، فأنا أفهم هذه اللغة.موقف أبي هذا صدمني كثيرا، لكنه جعلني ومنذ ذلك الوقت أبدل مجهودات مضاعفة لكي أفهم وأحيط وأهتم بشكل جيد بالصحافة خاصة الصادرة باللغة الاسبانية رغم أن عمري كان لازال آنذاك 12 سنة فقط.
إذن كيف امتهنت الصحافة فيما بعد؟
عندما عاد أحمد بلافريج بعد سنة 1946 إلى المغرب، اشتغل في جريدة العلم، في هذا الوقت كنت قد طردت من ثانوية مولاي يوسف ولم أستطع التوجه إلى طنجة، وبقيت أتجول في منطقة الرباط قبل أن أتوجه إلى مدينة الدار البيضاء.
في هذه الفترة بالضبط كانت أول مرة أسمع فيها اسم المهدي بن بركة وكان ذلك في ثانوية مولاي يوسف، حيث كان هناك اجتماع لقدماء طلبة هذه المدرسة، خصص لانتخاب رئيس لهم. وتقدم مرشح لتولي هذه المهمة وهو صديق رضا اكديرة واسمه رشيد مولين الذي كان يعتقد أنه سيفوز بالمنصب، غير أن منافسه المهدي بنبركة تمكن من الفوز عليه، مما تردد على مسامعي كثيرا ولأول مرة وأنا آنذاك لازلت طالبا بداخلية مولاي يوسف أن المهدي نجح، وانتصر على كل أعيان الرباط.
هذا كان على ما أتذكر سنة 1942 أو 1943، ويتزامن مع إنزال القوات الأمريكية والحلفاء بالمغرب أي قبل موعد 11 يناير أي دجنبر 1943.وبحكم منصبه، كان المهدي يراقب ويتابع عملنا بثانوية مولاي يوسف، حيث كان يتوفر على لائحة من الأسماء قام باستدعائها في شهر نونبر أو دجنبر، إلى منزله، وكنت من بين هؤلاء التلاميذ، وكان عددنا ما بين 5 أو 6 منالطلبة.
وكان هذا اللقاء مناسبة أخبرنا خلالها أن هناك حزب وطني سينشط ويتحرك، غير أنه لم يخبرنا باسم هذا الحزب مكتفيا بالإشارة إلى أنه يمثل الحركة الوطنية. وبعد ذلك في 11 يناير 1944 سيعلن عن تأسيس حزب الاستقلال الذي سيقدم عريضة المطالبة بالاستقلال إلى الملك محمد الخامس والمقيم العام والبعثات الدبلوماسية الأجنبية بالمغرب.
لقد تولى المهدي تعميم ونشر نص العريضة، وترويجها بين المواطنين والدعاية لها وإصدارها في نشرات كان بنفسه يتولى تحريرها. وبهذا خرج الشعب المغربي بأعداد كبيرة في مظاهرات بعدد المدن منها سلا وفاس ومراكش.
ومن أجل مواجهة هذه الانتفاضات التي عمت غالبية المناطق المغربية التجأ الفرنسيون الذين لم يكن في استطاعتهم تحمل هذه القضية بالمرة، في يوم 29 إلى محاولة كسر هذه المظاهرات وذلك باعتقال كل أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال والذي كان من ضمنهم المهدي بن بركة واليزيدي وعبد الرحيم بوعبيد وبقية الأعضاء.
نحن كنا في داخلية بكوليج مولاي يوسف، لما علمنا باندلاع المظاهرات في المشور القريب من أسوار الثانوية، أخبرنا كافة الطلبة الداخليين بأننا نحن أيضا قررنا الذهاب للمشور، وتحدينا مدير الكوليج بعدما حاول منعنا وصدنا من الالتحاق بالمظاهرات، فأسقطناه أرضا وكسرنا له يده وذهبنا إلى المشور.
عندما انتهت المظاهرة، عدنا أدراجنا إلى الكوليج حيث اعترضنا المدير عند باب الثانوية وخاطبنا بلهجة حادة: أردتم الخروج، فالآن لا دراسة ولا منحة ولا كتب ولا ملابس حتى.
إذن، بناء على هذا القرار أصبحنا جميعا خارج أسوار المدرسة بالشارع. فالتجأنا إثر ذلك إلى مسجد السنة القريب من كوليج مولاي يوسف لنتزود بالماء الشروب ونستريح قليلا، فظهرت أمامنا مشاكل وتساؤلات، كيف سنفعل مع زملائنا من التلاميذ صغار السن، وأين سيقضون الليل ومن أين سنجلب الكتب والملابس، بقينا هناك في المسجد ولمدة طويلة نناقش هذه المشاكل التي وضعنا فيها مدير الثانوية.
لكن الإخوان الوطنيين في مدينة الرباط، لما علموا بالخبر، التحقوا بنا بالمسجد، وجاؤوا بالعشرات، فقاموا بتوزيعنا على بيوت الوطنيين حيث وظل جميعنا هناك إلى أن جاء أهالي كل تلميذ وأخذوه معهم.وتصعيدا في عمليات القمع كانت السلطات الفرنسية تلقي القبض على كل من سولت له نفسه إيوائنا واحتضاننا.
فأنا كنت عند منزل بن براهيم، فألقوا علي القبض من هناك، وبعدما أفرج عني خرجت بعدها ورحت إلى حال سبيلي. كنت وحيدا أتجول في مدينة الرباط. في تلك الفترة وباعتبار مدينتي طنجة منطقة دولية كنت أتوفر على جواز سفر خاص بالمدينة، ولكن بدون تأشيرة علاوة على كوني كنت متابعا من طرف الفرنسيين.
وبالصدفة التقيت أحد الأصدقاء الذي نصحني بأن أطرق باب الفقيه بلعربي العلوي باعتباره الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقدم لي يد المساعدة لإيجاد حل لمشكلتي. وهذا ما فعلت لأن مصطفى ابنه كان يدرس معي بالثانوية.وبقيت مقيما لدى أسرة الفقيه بلعربي العلوي لمدة شهر إلى يوم أن جاؤوا واعتقلوه ونفوه إلى منطقة الصحراء مع ابنه مصطفى، مما جعلني أعاني من جديد من التيهان بين دروب الرباط.
المقصود من كل الكلام الذي قلته لك، أنه لما عدنا هنا كانت قد حلت سنة 1946، وأطلق سراح العديد من المعتقلين، وعاد الحاج أحمد بلافريج، وصدر العدد الأول لجريدة العلم، وكنت وقتها في مدينة الرباط، طلبت من الإخوان أن أحمل معي من الرباط إلى الدار البيضاء رزمة من الجريدة. وكان هذا هو أول عدد لجريدة العلم يقرأه البيضاويون هو ذلك الذي حملته على ظهري في القطار الرابط بين الرباط والدار البيضاء.
وأنا كما كنت أشتغل مع الوطنيين المغاربة كنت أضطلع في مرات متعددة كمراسل للجريدة من الدار البيضاء عندما يتعلق الأمر بحدث مهم. وهنا أتذكر ما حصل في المجزرة التي شهدها الباب الكبير بالدار البيضاء حيث ازهقت أرواح العديد من الناس، وهنا لازال عالقا بذهني لما زرت منزل أحد المواطنين ويدعى المغربي فكانت به العديد من الجثث متناثرة. وأنا منذ كنت صغير السن لم يخطر ببالي ولو لحظة، أن أعمل في الوظائف الصحية بالمستشفيات، فكنت عندما أذهب إلي المستشفى كانت تضايقني تلك الرائحة التي كانت تعمه.
كما لم يكن يخطر في بالي أن أعمل في مهنة الطب أيضا، وهذا ما زاد وصعب علي استنشاق روائح الدم الغزير المتدفق المنبعثة من تلك الجثث المتراكمة في أنحاء البيت.وعلى الرغم من هذه الظروف، أنجزت في ذلك اليوم مراسلة حول زيارة الملك محمد الخامس إلى منطقة الباب الكبير سنة 1947.
هذه الأمثلة سردتها لأبين لكم أن اهتماماتي بميدان الصحافة كانت منذ أن كنت طفلا كما أن إدراكي للأهمية الخاصة التي تكتسيها لم يكن طارئا، وإنما كان منذ بداية وعيي في مرحلة الطفولة المبكرة.
يرى العديد من الباحثين خاصة في مجال علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي أن المغرب، عرف نوعا من التعايش والتساكن بين مكونات الحركة الوطنية في السنوات الأولى للاستقلال غير أنه ابتداء من سنة 1960، ساد الصراع والمواجهة بين أطرافها خاصة بعد تأسيس الحكومة الملكية برئاسة محمد الخامس وتعيين ولي العهد نائبا له.
وهنا لا يهمنا أن تتحدث الأستاذ اليوسفي عن مخاض هذه الفترة بقدر ما يهمنا، كيف كان تأثير هذه التحولات السياسية في ظل الصراع من أجل تثبيت الشرعية التاريخية التي اكتسبتها الحركة الوطنية خلال مرحلة المقاومة وإرهاصات تأسيس شرعية جديدة بديلة، على عملكم الصحافي وعلى النقابة ومجالات حرية التعبير والصحافة خاصة، وأنكم مررتم بتجربة مريرة تمثلت في متابعتكم قضائيا على نشركم لمقال بجريدة التحرير كان عنوانه “.. الحكومة مسؤولة أمام الرأي العام ..” لماذا كان لديكم هذا الربط بين الجانب السياسي والجانب الصحفي؟
أشكرك جدا على هذا السؤال وأقول إنه على إثر ذلك المقال الذي أشرت إليه في سؤالك بالفعل أنه كان نتيجة بضع كلمات فقط نشرناها في جريدة التحرير، فكان مصيرنا الاعتقال، وبعد ذلك سقنا إلى الحبس (ساخرا).
فالصحافة كانت لها سلطة معترف بها في العالم كله، وهي إلى جانب السلط الثلاث وهي كما هو سائد السلطة التنفيذية والسلطة البرلمانية والسلطة القضائية. لقد أوضحنا هذا للقاضي جيدا وزدنا في التوضيح أن كل المفكرين يجمعون على أن هناك قوة رابعة في المجتمع هي قوة الرأي العام.
فلما اعتقلنا من أجل ذلك الموضوع، وتم تقديمنا بعد ذلك أمام قاضي التحقيق، سألني هذا الأخير إلى ماذا كنت ترمي بتلك العبارة ” الحكومة مسؤولة أمام الرأي العام “، فقلت له سيدي القاضي إن المعروف عالميا أنه هناك أربعة سلط والصحافة والرأي العام هي السلطة الرابعة، فنحن لم نخترع شيئا جديدا أو شيئا ما من وحي خيالنا، إن هذا الآمر معمول به في كل المجتمعات المتحضرة.
فعندما أصدرنا ذلك المقال، كان في ذلك الوقت المرحوم عبد الله إبراهيم رئيسا للحكومة والى جانبه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وزيرا مكلفا بالاقتصاد الخ، دعا محمد الخامس إلى عقد اجتماع لمجلس الوزراء، توجه خلاله بالسؤال إلى مولاي عبد الله إبراهيم، وقال له أنت يا رئيس الحكومة مسؤول أمام من؟ فأجابه على الفور أمام جلالتكم. فرد عليه المغفور له الملك محمد الخامس: وما هو تفسيرك وقولك فيما تضمنه المقال الذي كتبه صاحبك، فظل مولاي عبد الله صامتا ولم يرد على سؤال الملك.
ففهمنا أن هذا هو الأصل في قرار إحالتنا على القضاء ومحاكمتنا، لأن السلطات العليا – وعلى كافة مستوياتها – كانت لا تستسيغ هذه الفكرة، بل وأكثر من ذلك لا تؤمن، في ذلك الوقت بأن تكون الحكومة وأعمالها أيضا تحت رقابة سلطة الرأي العام الذي تؤثر في توجهاته بطبيعة الحال الصحافة.
مسألة أخرى أتذكرها وهي عندما دخلنا إلى السجن في 14 دجنبر1959، كان الحزب قد تأسس نهائيا في شتنبر وكانت هناك مشاكل مع المقاومين، وكنا قد توجهنا بطلب لزيارة الديوان الملكي، لكن لم يستقبلونا الأمر الذي جعلنا نبادر في كتابة برقية نشرناها بالجريدة وذلك حتى نوضح للرأي العام، بأننا قمنا بالذي كان يتعين القيام به من أجل الرد على أولئك الذين كانوا يقولون بأنه لم نعتمد الوسائل المشروعة.
لقد كنا مقتنعين آنذاك وتبين لنا بالملموس، أن هذا هو السبب الحقيقي، أما حكاية الافتتاحية فهي في حقيقة الأمر لم تكن سوى وسيلة واستعملت كذريعة، إذن كان السبب الحقيقي وراء اعتقالنا والزج بنا في السجن، هو كوننا نشرنا نص البرقية ليطلع عليها الجميع، في الوقت الذي لم يكن أي أحد من المقاومين قد قصد المشور. كما لم يتم إشعار المقاومين بأنه سيتم استقبالهم من لدن محمد الخامس الذي كان ملكا منفتحا ولم تكن لديه شخصيا مشكلة في التواصل مع كافة المواطنين.
وقد تطورت هذه الأحداث إلى درجة اتخاذ السلطات قرارا بتوقيف إصدار جريدة (التحرير) في هذه الفترة، فلجأنا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الكتابة في جريدة “الرأي العام” التي كان يصدرها حزب الشورى والاستقلال وكانت في تلك الفترة تحت إشراف المرحوم عبد الهادي بوطالب ويديرها المرحوم أحمد بن سودة.
واسمح لي أن أحكي لك بالمناسبة حكاية حول جريدة الرأي العام، وقعت في ذلك الوقت، حيث كان صديقي آنذاك الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي أعرف والدته وتعرفني خير معرفة، قد استدعاني في يوم من الأيام إلى بيته لتناول وجبة الغذاء، وكان موجود معنا السي محمد الشرقاوي وآخرين.
ولما انتهينا من تناول وجبة الغذاء جاءت والدته لتسلم علينا نحن أصدقاء ابنها فبادرتني بالسؤال قائلة أتسمح لي أن أسألك سؤالا حول فحوى ما تكتبونه على صفحات جريدتكم، فقلت لها متسائلا يا سيدتي هل ما نكتبه ليس صحيحا؟ أو نبتكر شيئا ما؟
فردت على تساؤلاتي قائلة طبعا لا فأنتم تنشرون فعلا الحقائق، وأنا أعتبر أنه من حقكم أن تقولوا ما شئتم وأن تعبروا عن رأيكم بوضوح ولكن في جريدة تحمل اسمك واسم الفقيه البصري، لكن أن ينشر هذا الكلام في الجريدة تحمل اسم بنسودة فأنا غير موافقة بتاتا على ذلك. فقلت لها أنتم الذين عملتم على توقيفنا حيث لم تعد تتوفر لدينا أية وسيلة للتعبير عن آرائنا والجهر بمواقفنا بالكتابة سوى هذه الجريدة.
عشنا في ذلك الوقت في حالة توتر وصراع ومشادات كلامية دائمة، وكم من المرات اختلفنا حول العديد من المسائل الأخرى. طبعا كنا في بعض الأحيان نؤدي ثمن وضريبة العناوين المثيرة التي كنا نضعها لمقالاتنا، فمثلا لما كانت الحملة الخاصة بدستور 1962، نشرنا في الصفحة الأولى على ثمانية أعمدة موقف الفقيه بلعربي العلوي الذي يقول فيه آنذاك “إن ولاية العهد غير موجودة في الإسلام”.
وكان المناضلون يعيدون كتابة هذه العبارة المنشورة على صدر الصفحة الأولى من الجريدة ويعلقونها على الجدران بكافة المدن، وفي الغد يفاجئون بقيام البوليس والمخازنية بتمزيقها ليلا، فيعود المناضلون مرة ثانية وثالثة لتعليقها على الحيطان. خلال الحملة أيضا قمنا بنشر وعلى ثمانية أعمدة موقف عبد الكريم الخطابي. المهم أن الحالة خلال تلك من حياة الصحافة الوطنية كانت تتسم بالمواجهة السياسية والصراع المباشر مع السلطة.
في هذا الخضم والسياق بادرتم بتأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية سنة 1963، إذن كيف جاء هذا القرار؟
جوابج: أنا لا أعتقد بأنه كان هناك قرار مسبق، فكوننا نشتغل في الصحافة، كان ممكنا أن نكون مع بعضنا البعض لحماية المهنة، وفي ذلك الوقت، الصحافة التي كان لها دور وحضور هي صحافة الحماية الممثلة في الجرائد الصادرة باللغة الفرنسية.
ونحن من الأمور التي كنا نعمل ونناضل من أجلها، هي تأميم هذه الصحافة التي فوتت في مرحلة متقدمة إلى مولاي أحمد العلوي الذي أصبح هو المسؤول عنها.
إذن كان هناك دافع طبيعي في عهد الاستقلال، لتأسيس هذه النقابة، فالصحف الوطنية الموجودة آنذاك كان عليها أن تتعاون. وطبعا أنا كنت قد اقترحت خلال الجمع التأسيسي للنقابة وفي لحظة انتخاب مكتب النقابة الأول أن يكون السي عبد الكريم غلاب هو الرئيس.
لقد كان الهدف الأساسي من تأسيسنا للنقابة لا يتمثل فقط في الدفاع عن الصحافة الوطنية، وإنما كان إعادة اللحمة بين مكونات الحركة الوطنية حيث كان للنقابة الوطنية للصحافة المغربية آنذاك فائدة كبرى على العلاقة بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ويمكن اعتبار أن النقابة كانت أول عمل للتفاهم والتعاون والتكتل بين الحزبين بعد سنة 1959.
غير أن المتتبع للشأن الصحافي بالمغرب يتساءل لماذا لجأتم إلى تأسيس نقابة وليس جمعية على الرغم من طبيعة العمل الصحفي الذي يشكل الفكر والثقافة واشتغاله في حقل حرية التعبير والإبداع شروطا رئيسية لقيامه. هل كان لجوئكم لهذه الآلية هو شكل من أشكال المقاومة والمواجهة والمعارضة السياسية لما كان سائدا؟ خاصة وأن جل الدراسات والبحوث لا تدرج عند تناولها النقابة الوطنية للصحافة المغربية ضمن التنظيمات النقابية بالمغرب؟
يظهر لي وعلى ما حسب اعتقادي، أن الصحفيين في العالم وبأوروبا على الخصوص شكلوا نقابات. ونحن بدورنا أردنا أن نقتدي بهذا الأمر وعملنا على تأسيس نقابة من أجل أن تكون الصحافة لها سلطة، يصبح لها مركزا في البلاد، وليس فقط جمعية.
بل اختيارنا نقابة لإيماننا بأن ستقوم بعمل نضالي وذلك لحماية الحق في الصحافة وحرية التعبير، ولإعادة الاعتبار للصحافة الوطنية التي ذاقت شتى ضروب المحن والعذاب أيام الحماية، وحين نرجع بذاكرتنا إلى بداية عهد الاستقلال، نجد أن العمل الصحفي في تلك الظروف لم يكن بالشيء الهين.
غير أنه إذا أخذنا كمثال أيام تجربة حكومة مولاي عبد الله إبراهيم، كانت الصحافة قد لعبت أدوارا جد هامة، لذلك أردنا حينما أسسنا النقابة كان هدفنا أن يكون لنا جهازا يسير بنفس الطريقة التي كانت تسير بها النقابات المتطورة في أوروبا والخارج، وذلك حتى يكون للصحافة المكانة المرموقة والشخصية الكبيرة داخل المجتمع.
كان الهدف الأول هو الدفاع عن وجود الصحافة، والهدف الثاني الرئيس يكمن في محاربة صحافة “ماص”، هل كانت لديكم قضايا أخرى تدافعون عنها غير هذه القضايا؟
مكن أن يكون هناك شيء آخر أيضا غير محاربة الصحافة الاستعمارية، ولكن للأسف الشديد لا أتذكر.
منذ متى انقطعتم عن ممارسة مهنة الصحافة؟
منذ اختطاف المهدي بنبركة، أولا الدولة أوقفتنا، وعينني حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للذهاب إلى باريس لتنظيم محاكمة المتهمين عن هذا العمل والقيام بدور الدفاع وكذا الأداء بشهادتي الخاصة عند الاقتضاء.
فابتداء من شهر نونبر 1965 بالضبط لم أعد أشتغل بمهنة بالصحافة، وقد استمر هذا الوضع إلى حين عودتي إلى وطني المغرب حيث استأنفت العمل بها على رأس جريدة “الاتحاد الاشتراكي” التى كان الإخوان بعد 1998 من يقومون بتدبيرها بحكم إنشغالاتى بالحكومة.
المثير أن مرحلة المواجهة بين النقابة والسلطة كانت ما بين 1963 و1993، بعدها جاءت المناظرة الأولى للإعلام والاتصال، أعقبها ما سمي آنذاك بالملامح الأولى للانفتاح السياسي، كما شهد الحقل الإعلامي بدوره تحولا معتبرا، كل ذلك كان يجري بالموازاة مع التحولات السياسية التي من بين عناوينها دستور 1992 و1996 وإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وانتخابات 1997 وفوز الاتحاد الاشتراكي ثم تشكيل حكومة التناوب بقيادتكم سنة 1998. هل في اعتقادكم أن ذلك ساهم في جعل الصحافة تلعب الدور المنوط بها؟
دستور1992 جاء بعدما تقدم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال بمذكرة الإصلاحات الدستورية إلى الملك. وكانت تتضمن هذه المذكرة إصلاحات مهمة، لدرجة أن الملك الحسن الثاني كان قد استدعانا واستدعى أعضاء الكتلة وخاطبنا بالقول إنني استجبت لجميع المسائل التي طلبتموها في مذكرتكم، فقلت له يا صاحب الجلالة، لقد ظلت هناك مسألتين أساسيتين ظلتا معلقتين، أولهما انتخاب مجلس النواب بالكامل وحكاية الثلث الناجي بالبرلمان، هي العبارة التي كنت قد استعملتها آنذاك، وغادرت المغرب بعدها، فرد علي الملك أن ما يهمه في البرلمان أن يكون بالبرلمان أناس طائفة منهم من ذوي الشيكات التي بإمكانهم استعمالها يوميا من طرفهم، وكان يعني بذلك فئة التجار من أعضاء الغرف التجارية.
وقلت يا صاحب الجلالة يجب أن يتضمن الدستور مؤسسة الوسيط التي لم نفهم لماذا غابت في هذا القانون الأساسي. فرد علي الملك إن هذه المؤسسة لسنا في حاجة أن تكون بواسطة نص دستوري، فلما تتولوا مهام الحكومة المقبلة، سيكون بمقدوركم إصدار قانون خاص بهيئة الوسيط كي يشرع في ممارسة مهامه.
وانتظرنا إلى أن جاء دستور 1996 كمرحلة تكميلية تم خلالها تشكيل البرلمان بغرفتيه الأولى مجلس النواب الذي كان ينتخب مائة في المائة بواسطة الاقتراع السري المباشر، والثانية مجلس المستشارين الذي كان ينتخب بالاقتراع غير المباشر.

(أجري الحوار بمنزل عبدالرحمن اليوسفي بمدينة الدار البيضاء – يناير 2016)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.