بعد نهاية صلاحيته، كعلبة سردين أو أي منتوج غذائي، تم التخلي عنه بإسقاطه من شاهق التنظيم الوطني العتيد (حزب الاستقلال). سبقت ذلك إشارة طرده شر طردة مع أتباعه من المركزية النقابية الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، التابعة للحزب، في معركة "داخلية" فاصلة. كنتُ بصدد اقتراف خطأ جسيم، حينما عَنَّ لي أن أشبهه بذلك الكولونيل الذي حكى لنا عنه مرة الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، في روايته القصيرة: "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه". لكني تراجعت سريعا، لما تذكرت أن الكولونيل الأمريكي اللاتيني استطاع في لحظة صفاء الوصول إلى الإحساس بالنقاء وبالوضوح، وتبين له أن ما عاشه خلال سنوات عمره التي تفوق السبعين (75 سنة)، مجرد عبث، فلم يتردد في وصفها ذات نهار كولومبي حار، في سخرية قاتمة، ب "الخراء!". ملخصا تجربة قاسية مدثرة بالخذلان والمرارة المصبوغة بالندم. كانت نهاية الرواية هي كلمة "الخراء"، وكانت كلمة السر التي تفتح لغز حياة مغتصبة. أما صاحبنا، فقد أجزم أن لا صلة له بالرواية أو بالقراءة وبغارسيا ماركيز، مثله كعدد كبير من سياسي هذه المرحلة المقيتة، وإن أشارت التقارير وردهات المحاكم ذات مرة إلى صلة أولاده باتهامات ترويج "المنتجات" الصلبة القادمة من إقليم ميديلين في كولومبيا، بلد الكولونيل الحكيم الذي ذكرناه أعلاه، علما أن غارسيا ماركيز تعمد ونسي ذكر اسم هذا الضابط العسكري المتقاعد، كما نسي التاريخ ذكره… *** لما جرب صاحبنا الاقتراب من الورق والمداد، قبل صعوده الصاروخي، قام بالإنفاق على جورنال اقترن عنوانه ب "الغربال"، هو ذات الاختراع الزراعي العاجزعن حجب أشعة الحقيقة مهما اتسعت ثقوبه وتعددت أعينه. لم يفده إتقانه للكمات التي قد تسبق لسانه أحيانا، وقد شاهدنا مرة استعماله لهذه "الرياضة" في بهو البرلمان، والملاكمة رياضة موصوفة بالنبل لدى ممارسيها ومحبيها. حدث ذلك مباشرة بعد خطاب افتتاحي لعاهل البلاد في مجلس للبرلمان. واعتقد الكثيرون أنهاهزيمة قاسية أتت ب"الضربة القاضية". وقد كتب القاص إدريس الخوري عن هذه الواقعة. ظن المتتبعون، أنها ضربة "الكاو" القاتلة، خصوصا بعد أن حزم حميد شباط حقيبته وسافر ليلا الى ألمانيا وتركيا. قيل إنه راح لأكل غلة ما جناه وربحه من أموال ومداخيل جمعها من "اشتغاله بالسياسة". فما راكمه من أموال تحسب بالملايير، رصيد لا يمكن أن يكون من نصيب "سيكليس" مصلح دراجات، مهما اتسخت ثيابه ويديه وعلت الحمم وجهه، ومهما كد واجتهد العمر، ومهما غرق في خيالات الحلم السعيد والتفاؤل اللذيذ. إنه أمر لا يتأتى إلا لمن عرف جيدا من أين تؤكل الكتف ورضي عنه المخزن وأرضاه. عنوان عريض ل"قصة نجاح" نادرة ليست في متناول اليد. بعد مرور عامين، كاد خلالهما أن يطويه النسيان، ظهر الرجل فجأة في قاعة البرلمان، فتذكره الناس، وغاضهم أنه ظل يستفيد من راتبه وتعويضاته وامتيازاته التي يمنحها له البرلمان، هي ذات الامتيازات والتعويضات التي يقاتل عن استمراريتها النائب الدون كيشوتي إدريس الأزمي ومعه آخرين، إذ ليس وحده. فمن بينهم (الاشتراكي يا حسرة)، المتربع على صهوة الهيئة التمثيلية قسرا، كممتطٍ ظهر بغلة هجينة. لذلك علينا أن نفهم جيدا أن القرار المفاجئ بإلغاء المعاشات البرلمانية لم يكن ليحصل لولا تلقي الإشارة من حكومة الظل المعلومة. *** شباط الغائب الحاضر، الذي عبث بشهور الزمن، فرأينا كيف خلط فصل الشتاء بفصل الخريف، فظهر شهر "شباط" في شهر"تشرين"، وفق أسماء الشهور في التقويم السرياني. إنه ليس وحده، فأمثاله كثيرون ممن يختفون ثم يظهرون فجأة كثعلب المرحوم محمد زفزاف. وما دامت المسطرة القانونية ضعيفة ومجمدة، فلا مانع من استمرار لعبة الضحك على الذقون .بالرغم من نص النظام الداخلي للبرلمان على مجموعة من التدابير والإجراءات "العقابية". لكنه عقاب كعدمه. مثل "إعلان أسماء النواب المتغيبين عن الحضور بوسائل الإعلام"، فإن الظاهرة استمرت وستستمر.. ولا من يحزنون أو يفرحون. اللوم لا يوجه لصاحبنا، بقدر مايجب توجيهه إلى المؤسسة البرلمانية برمتها، وإلى الفريق البرلماني الذي ينتمي إليه والحزب الذي وصل باسمه ورمزه، ذاك الرمز الذي يلخص قيم العدالة والمساواة، "الميزان.. يا أصحاب الميزان"، وما أدراك ما القسطاط… *** وصل شباط إلى البرلمان، بعد غياب استمر أزيد من عامين ونيف، وصلت إلى الثلاثين شهرا، قال لبعضهم أنه كان "كونجي" وفي استراحة! ترجل عمدة فاس السابق من سيارته الفارهة، وشرع عند الباب والممر المؤدي إلى القاعة الكبرى، في تلقي السلام والتحيات من مستقبليه، لحسن الحظ قام كوفيد 19 بالمهمة وأفلت هؤلاء من عناقه الطويل ومن أحضانه الثقيلة وتبويساته الغليضة. فكانت تحيته برفع يسراه، وبابتسامة غطت غموضها الكمامة. وكعادته دائما كان رد شباط: "مبروك العيد". فالأيام لدى هذا الرجل وأمثاله من المحظوظين، كلها "أعياد مباركة". في لحظة صفاء وهناء بمنفاه الاختياري، أدرك شباط أن عليه العودة الآمنة الى النبع، فما زالت البئر ملأى بلا حساب ومياهها زلال. انتشر الخبر سريعا، مرحى بالبشرى والبشارة، فقد وصل المرشح العتيد، ليحجز مكانه على رأس لائحة "حزب سيدي علال" في الانتخابات القادمة. فمنذ سنة 2002 وشباط هو خير من يمثل دائرة فاس الشمالية. إنه حصان سباق رابح لا يضاهى. فمن يراهن؟ حصان لا تعوزه سنابك تم اقتناؤها من مصانع "العبث السياسي"، ومُسرَّج بالفهلوة والشعبوية "الاصيلة"، حصان راكض بلا لجام يصد صهيل عدوانيته "الماركة المسجلة". ولتموتوا بغيضكم يا أعداء الكروش الحرام.. أيها الجوعى.. ما أشد جوعكم، أيها الحاقدون الحساد. متى تدركون أن "عين الحسود فيها عود؟"… ولتتذكروا كلمة السر، فهذه الدنيا فانية وزائلة، والجنة أمام. ولا تغرنكم بالدنيا الغرور. تذكروا حكمة الكولونيل: "الحياة خراء"… نهايتها خراء… هذه هي حال السياسيين والنخبة السياسية في بلدكم.. وهم من شتيمة أكبر من أي شتيمة. شباط وأصحابه عليكم جميعا… ولا عذر، الخراء علينا.. آمين.