كلما انطفأت شمعة من فضائنا الثقافي والمعرفي، وجدنا أنفسنا، ونحن نستحضر ما تتميز به هذه الشخصية أو تلك، نتساءل عما خلفته، وما يفرضه علينا الواجب حيال آثارها أو أدوارها الثقافية. غادرنا قبيل عيد الأضحى محمد سبيلا صوت الفكر النقدي، والمدافع عن تطوير الفكر المغربي والعربي. بفقدانه، وكل الأعلام المغربية التي تتوارى خفية عنا تباعا، يفرض علينا حدث الموت التفكير في ما قبله، والتخطيط لما بعده. ولعل أهم سؤال يتعلق بمدى مواصلة المشاريع التي دشنها السابقون للاحقين؟ وما مدى قدرة اللاحق على مواصلة المسير بهمة وإرادة وعزيمة. إن المشترك بين الجيل الذي ولد قبل الاستقلال، وما بعده إلى نهاية الستينيات، تشبع بصورة أو بأخرى بروح الحركة الوطنية المغربية، واتصالها بحركات الإصلاح العربية التي دشنت منذ النهضة العربية. ولذلك كانت رؤيتها تتركز حول معارضة ما هو قائم، والحلم بمستقبل مختلف، ومن ثمة كان ما يجمعها، سواء انتمت لأحد التيارات السياسية اليسارية أم لا، هو انتماءها لمسار فكري ومعرفي عام يرمي إلى تجديد الثقافة والفكر، والإسهام في تطوير المجتمع العربي، عبر الاشتغال بالفعل الثقافي. ولهذا السبب نجد أغلب مفكرينا ومثقفينا ارتبطوا بالصحافة أو التعليم، أو بهما معا. كما أننا نجد أكثر من ساهم منهم في العمل على تطوير الثقافة العربية الحديثة اشتغل بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانية، وليس بالعلوم الحقة أو التكنولوجيا. محمد سبيلا من الرعيل الأول الذي اشتغل بالتدريس في الجامعة المغربية وهي في بدايات تشكلها.. وكان يكفي بالنسبة إلينا، نحن تلاميذ الثانوية، أن ننعت أستاذا بأنه يدرس الفلسفة لنصنفه ضمن خانة المعارض السياسي والثقافي. ومعنى ذلك بعبارة أخرى لعبه دور المحفز على تطوير التفكير والفكر. وكان محمد سبيلا من بين الأوائل المحرضين على التفكير الجديد. تعرفت عليه في فاس حين كانت فاسا في مقاهي شارع محمد الخامس التي كانت ملتقى للمثقفين والأساتذة من مختلف الاختصاصات. وكان المقهى مجلسا للحوار والنقاش في قضايا الثقافة والاجتماع والسياسة. بسمته الساخرة كانت تثيرني فيه، إلى جانب روحه المرحة التي لا تخفي صرامة في المواقف، ودقة في التعبير عن آرائه بلا مواربة. وكانت لنا بعد ذلك لقاءات في اتحاد كتاب المغرب، وفي الدارالبيضاء، وبعدها في كلية الآداب في الرباط، وأخيرا في اللقاءات التي كان ينظمها بين الفينة والأخرى المرحوم عبد الكبير العلوي الإسماعيلي في بيته. في كل هذه اللقاءات، وفي تقديمه لكتابي «المغرب مستقبل بلا سياسة» وفي كتبه الفكرية، وترجماته لعيون المعرفة الفلسفية ومفاهيمها، ومقالاته الثقافية والاجتماعية، كان يبدو لي مثقفا من طراز رفيع يجمع بين الهم الفكري والتطور الاجتماعي. كان مدافعا عن الحداثة ليس بالمعنى الذي صارت تختزل إليه، إنها في تصوره عتبات ودرجات ومستويات عمل، الانطلاق منها ركيزة لتطوير الفكر العربي، وليست شعارا أيديولوجيا يوظف في الصراع السياسي، لذلك نجده مدافعا عن القيم الفكرية والثقافية، التي تدفع في اتجاه تقدم الإنسان فردا وجماعة مؤسسة، وتنظيم العلاقات بين الأمم والشعوب على ضوابط جديدة. محمد سبيلا وليد حقبة وجيل من الباحثين والمفكرين المغاربة، الذين أسسوا للدرس الفلسفي المغربي والعربي. وكانوا مجتمعين في رؤيتهم الفكرية والاجتماعية، ومتفرقين في توزيع اهتماماتهم الثقافية. لم يترك موضوعا لم يعالجه بطريقة واضحة ودقيقة، فمن المفاهيم والمصطلحات، إلى الاتجاهات والتيارات الفكرية المختلفة، إلى الأعلام الذين ساهموا في تطوير الفكر الإنساني، يبدو لنا ملما بمجمل تصورات التفكير، وله رؤية خاصة ومتكاملة في مختلف القضايا التي يتناولها بلغة شفافة وعميقة، تمتزج فيها ذاتيته النقدية بموضوعية تقديم الأفكار، بعد الإحاطة بها من مختلف جوانبها، لذلك تخلو كتاباته وترجماته من الغموض والتعقيد الذي نلمسه في بعض الكتابات الفكرية والفلسفية. ولا يمكن أن تتوفر مثل هذه السجايا إلا لدى من يمتلك القدرة البيداغوجية التواصلية والتفاعلية والمعرفة العميقة. وفعلا كان سبيلا معلما كبيرا. محمد سبيلا وليد حقبة وجيل من الباحثين والمفكرين المغاربة، الذين أسسوا للدرس الفلسفي المغربي والعربي. وكانوا مجتمعين في رؤيتهم الفكرية والاجتماعية، ومتفرقين في توزيع اهتماماتهم الثقافية. منهم من انصرف إلى التراث، أو الأبستيمولوجيا، أو المنطق، أو الفكر المعاصر. وأدى كل منهم دوره الكبير في إقامة سيمفونية وتشييدها في فضاء الساحة العمومية المغربية والعربية، متجاوزين بذلك حدود المدرجات الجامعية التي كانوا يحتلونها بجدارة واقتدار ومسؤولية. لقد انشغل هذا الجيل لأنه سليل الحركة الوطنية بالهم الفكري والاجتماعي، وقد دفعه ذلك إلى الإسهام في تعميق المعرفة، في مختلف جوانبها، بهدف تطوير الإنسان والمجتمع. وخلّفوا لنا بذلك تراثا هائلا ومهما. كيف يمكن للأجيال الجديدة والقادمة التعامل مع هذا التراث، وقد جرت مياه تحولات كبيرة، سواء في الساحة العمومية أو الجامعة في زمن الثورة الرقمية، الذي وجدوا فيه أنفسهم؟ هذا هو السؤال الذي يفرض علينا نفسه، ونحن نودع رجالات أسهموا في الحداثة الحقيقية. لقد خلت الساحة العمومية من رجالاتها، وصار الفضاء العمومي الرقمي بديلا يتجاور فيه الصاهل والساحج، والنابح والعاوي، ويهيمن فيه القاص واللاصق. كما صارت الجامعة مهوى البحث عن المسؤولية والترقية. بناء الإنسانيات الرقمية الحقيقية في الجامعات العربية مقدمة للحداثة.