في الوقت الذي كان يثني فيه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند خلال زيارته للمغرب على الإنجازات "العظيمة" التي تحققت في مجالات الديمقراطية و حقوق الإنسان و المرأة، بفضل دستور الفاتح من يوليو؛ مهنئا الوزراء و نواب الأمة المغاربة على المكتسبات المحققة. كان ينتظره وقتها في بلده فرنسا، فصل عصيب، من فصول المحاسبة أمام ثالوث الرقابة الشعبية : "المعارضة، الصحافة، الرأي العام"؛ الذي قد يغفر أي شيئ عدا التلاعب بالمصلحة العامة للوطن؛ فيما بات يعرف بالفضيحة المالية، التي فجرها الموقع الإلكتروني الفرنسي "ميديا بارت"، بعد نشره تسجيلا صوتيا لوزير المالية (الأسبق) السيد "جيروم كاهوزاك" يعترف فيه بامتلاكه حسابا مصرفيا في أحد المصارف السويسرية بقيمة 600 ألف يورو. و هي القضية التي ينتظر أن يحسم فيها القضاء، و التي دفعت برئاسة الجمهورية إلى إصدار بيان رسمي تمت صياغته بلغة صارمة و قاسية، وصفت فيه الحادثة ب "الخطأ الكبير الذي لا يغتفر". ليدخل بعد ذلك رئيس الحكومة السيد "جان مارك إيروت" على الخط؛ بدعوته "كاهوزاك" تقديم استقالته من جميع المناصب التي يشغلها، و على رأسها منصبه الوزاري. ليقرر الحزب الإشتراكي الذي ينتمي إليه، هو الآخر، إصدار قرار فصله من صفوفه. و بذلك يكون كل صاحب مسئولية في جهاز الحكم، قد تحمل مسؤوليته الأخلاقية و السياسية، انطلاقا من موقعه، و ساهم في وضع أولى شروط المحاكمة العادلة. ففي بلد كفرنسا، لا بد أن للديمقراطية تقاليد و أعراف؛ و هكذا، فبيان رئاسة الجمهورية الذي وصف الحادثة ب "الخطأ الكبير الذي لا يغتفر"، يحمل في طياته تأكيدا رسميا من أعلى سلطة في البلاد، على حجم و وزن الواقعة و خطورتها، و يضع المسئول عنها أمام المسئولية القانونية. أما مبادرة رئيس الحكومة و الذي يعتبر رئيسه المباشر؛ بدعوته للتنحي عن المناصب التي يشغلها؛ فهي بمثابة تجريد له من أي امتياز سياسي أو وظيفي يمكن له أن يؤثر في سير المحاكمة. نفس الشيء، بالنسبة لقرار الفصل الصادر عن الحزب الذي ينتمي إليه. هكذا، إذن، تابعنا، كيف يمكن للعدالة أن تأخذ مجراها في قضية تهم الشأن العام، بعيدا عن أي تداخل بين السلط أو أي تأثير من أصحاب القرار. لأنها، ببساطة قضية تدخل في إطار الفساد المالي، الذي قد يمثل في غالب الأحيان نهاية المستقبل السياسي، لأي سياسي ثبت تورطه. و لا مانع في هذا الصدد من استحضار أمثلة عن بعض الفضائح المالية التي هزت الرأي العام الفرنسي، كقضية "وظائف المجاملة" مثلا، التي جرت الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" إلى القضاء، سنة 2011، و بسببها قضت في حقه محكمة الجنح بباريس بعامان سجنا موقوفا التنفيذ، بتهمة تبديد المال العام؛ بسبب توزيعه وظائف وهمية و غير ضرورية على أشخاص مقربين منه سياسيا، عندما كان عمدة على بلدية باريس. و بالرغم من أنه لم يوقع سوى على وظيفة واحدة من بين الوظائف المعنية؛ و التي تخص منصب سائق سيارة حكومية، إلا أن القضاء قال كلمته، و لم يشفع له لا تاريخه السياسي و لا الخدمات الجليلة التي قدمها لفرنسا، طوال ولايته الرئاسية. ففي بلد القانون و المؤسسات و أمام وضوح القانون و فصل السلط عن بعضها و توازنها، لا مجال للتنصل من المسئولية بأي شكل كان، و مهما كان شأن المعني. نيكولا ساركوزي الذي جلب لفرنسا خلال فترة ولايته الرئاسية، عشرات الملايير من اليوروهات من خلال صفقات الأسلحة و المواصلات و الإتصالات التي وقعها مع عدد من البلدان العربية، لم يسلم هو الآخر من الجرجرة أمام المحاكم؛ بعد اتهامه ب"استغلال الضعف" في قضية تاجرة الماكياج ليليان بتنكور، بابتزازها من أجل تمويل حملته الإنتخابية. و قد كانت الصحافة على الدوام، هي المحرك الأساسي لأغلب ملفات الفساد التي عرضت على القضاء؛ بعد نشرها كفضائح على صفحات الجرائد الإلكترونية و الورقية؛ و هكذا، فإن الإعلام و الصحافة، يثبتان دائما و بعد كل قضية تخص الشأن العام، بأنهما عنصران أساسيان و حيويان داخل منظومة العدالة. و كما في فرنسا؛ فقد شهدت الساحة السياسية المغربية أيضا، فضائح من نفس المجال؛ تفجرت على صفحات الجرائد. إلا أن الفارق دائما، بين تلك التي عرفتها الساحة السياسية الفرنسية، و نظيرتها المغربية؛ أن الأخيرة لم تحضى بما تستحقه من اهتمام من مختلف أجهزة الدولة، و وجدت طريقها نحو العدالة مليئا بالعراقيل و الثأتيرات الخارجية، ليُحكم على ملفاتها في نهاية المطاف بالطي و التجميد. و ما الفضيحة التي فجرتها جريدة أخبار اليوم في السنة الماضية، حول استفادة مالية متبادلة قدرت بالملايين، بين كل من وزير المالية السابق صلاح الدين مزوار و مدير الخزانة العامة نور الدين بن سودة؛ إلا دليل على غياب المحاسبة أو محدوديتها في أحسن الظروف، بعد أن وجدت نفسها (المحاسبة) محكومة بالتدخلات الخارجية في القضاء، الذي يصر أمام كل امتحان على إثبات عدم امتلاكه لاستقلالية ذاتية حقيقية. و رغم تحول الفضيحة إلى موضوع نقاش عمومي، بعد أن تناقلتها عموم وسائل الإعلام المحلية و الدولية؛ إلا أن القضية، و بفعل فاعلين، اتخذت منحا مغيارا تماما لشعارات الدولة فيما يخص الحماية القانونية للشهود و المبلغين عن الرشوة و الحق في المعلومة؛ بعد أن استدارت أصابع الإتهام بمائة و ثمانين درجة نحو مسربي الوثائق، موجهة إليهم تهما من قبيل إفشاء السر المهني، بدلا من تعميق البحث في ملفات القضية الأساسية. و بهذه القضية المشابهة إلى حد ما، لقضية جيروم كاهوزاك، تكون العدالة في المغرب قد أثبتت فشلها للمرة المليون أمام رموز الدولة. في حين خرجت العدالة في فرنسا، للمرة المليون، منتصرة لاستقلالية القضاء؛ و إن كانت القضية لم تحسم بعد، لكنها استطاعت على الأقل، مبدئيا، إثبات أن كل مسئول مهما على شأنه، تبقى يده أقصر من أن تطال مفهوم العدالة في مجتمع المؤسسات و القانون. و بهذا لا يبقى مجال للغموض أو الإستغراب من الكلام السابق لرئيسي الحكومتين، الفرنسي و المغربي؛ فالسيد جان مارك إيروت قد عبر عن فلسفة عدم الإفلات من العقاب السائدة في بلده، و عن تكامل أدوار المؤسسات في تحصين الديمقراطية و ضمان سير القانون، من خلال عبارته التي ختم بها لقاءه الصحفي، حول قضية كاهوزاك "السبيل الوحيد للوصول إلى هذا المبتغى (يُقصد تطبيق العدالة) هو ترك القضاء والإعلام يعملان بكل حرية وبدون أي تدخل من رجال السياسة". مقابل مقولة "عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ" الشهيرة لزميله المغربي السيد عبد الإله بن كيران، و هو يعلن انهزامه أمام الملايين من المشاهدين خلال لقاءه التلفزيوني على قناة الجزيرة؛ مجسدا حقيقة التحولات التي عرفها المغرب ما بعد 2011، و شعارات الحكومة عن محاربة الفساد و إقرار مبدأ المحاسبة. عضو اتحاد المدونين العرب هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.