أخيراٌ، بعد كل هذه الأعوام من السفر، عدت إلى أحضان الوطن، كنت أريد أن أعانق كل شيئ أجده في طريقي، وكم كنت مشتاقا أن أقوم بصلة الرحم مع غرفتي التي كانت معروفة عند العائلة " بالحجرة الملعونة " قررت أن أصعد إلىيها هذا المساء وهي تتواجد في السطح، بعد أن ظلت مقفلة سنوات طويلة، أُقْفِلَتْ معها كل أشيائي أولها عقلي ومعها كل ذكرياتي، ألم يكن يقول سانت أوغستان : " العقل هو الذكريات " ، ألهذا السبب نظل متشبتين إلى آخر رمق بهذه الذكريات ؟ وجدت الغرفة نائمة والكتب متناثرة هنا وهناك، كامرأة حسناء ساقطة من السرير وشعرها الأسود الطويل يملأ الغرفة في كل مكان، لم أستطع العبور كأنني سأضع قدمي على الديناميت وقد تنفجر الغرفة بما فيها. ياله من إحساس عجيب عندما تشعر بالرعب وأنت في مكان يحوي كل أسرارك الصغيرة. كان كتاب تاريج الجنون الكلاسيكي للمفكر مشيل فوكو أول كتاب ساقط على عتبة باب الغرفة، أخدته وتصفحته برفق، كم كان ثقيل الوزن والأفكار والمعطيات والهوامش، ففهمت أنه بسبب هذا النوع من الكتب حققت أوروبا عقلانيتها وظل العالم الإسلامي في جنونه الطويل، على يسار الباب الخشبي عثرت على كل المجموعة الرائعة لمجلة لاماليف التي كانت من المجلات العلمية والقوية في فترة سنوات الرصاص وكانت ترأسها الكاتبة المتميزة " زكية داوود "، تصفحت بعض الأعداد، ياللمفاجئة عندما عثرت على العديد من الأقلام اليسارية كانت رائدة أنداك في تلك الفترة نضالا وكتابة وموقفا وحضورا وهاهي الآن أغلبها توارت إلى الخلف بعد أن قام المخزن بتعليفها ( من العلف) جيدا، وتخلت عن كل المبادئ التي كانوا يصرخون بها في كل المناسبات، حتى وصل بهم الأمر إلى تحويلها إلى سمفونيات وكان لايفوتون أية فرصة لعزفها على آذان الشعب المغربي بما فيها حتى فترة الحداد. يالها من ذكريات جميلة لازالت تنام في هذه الحجرة، لا أحد يستطيع أن ينكرها أو يدحضها سوى من كانت له ذاكرة مثقوبة، لكن هيهات هيهات عندما تتكلم الوثيقة وتقدم كل تفاصيل تاريخ موبوء بالجرائم السياسية يسكت كل المتكلمين الغوغاء وتسقط كل إدعائتهم المزورة. دخلت الحجرة بهدوء أتربص كلص محترف، استغربت لهذه الفوضى العارمة التي كانت تسود الغرفة، ابتسمت بشكل ماكر وقلت في نفسي : الحمد لله ، ليست غرفتي وحدها من تعيش هذه الحالة من الفوضى فكل أرجاء البلاد تعيش هذه الوضعية، ولهذا فليس أمامي من حل سوى إعادة ترتيب كل شيئ من الأول، فالحل الذي علي اتخاذه لامحالة سيكون جذري، لكن هل هذا ما يتوجب اتخاذه بالنسبة للبلاد بأكملها أم نحتاج إلى وصفة أخرى ؟ ترى هل لازال لنا كفاية من الوقت للبحث عن هذه الوصفة العجيبة ؟ النوافذ هي الأخرى لم تفتح منذ ذلك اليوم الذي قررت فيه مغادرة البلاد، ألتفتُ يمينا ويسارا أبحث عن الإنارة، الحجرة ملعونة ومظلمة، قلت مع نفسي وأنا أقارن بلادي مع بلدان أخرى كم نحتاج من الوقت والجهد للخروج من هذا الظلام الذي لازال يسكن كل أركاننا ؟ وأخير اهتديت إلى مكان الزر لتشغيل الضوء، الآن وقفت وجها مع وجه للفوضى العارمة التي ضربت الحجرة، ياله من مكان مثير، لقد تحولت الغرفة إلى زبالة حقيقية للكتب والمجلات والجرائد، والعديد من الصور المترامية هنا وهناك، هاهي صورة كبيرة للمناضل العتيد المهدي بن بركة، ياللعجب لايريد أن يموت هذا الرجل رغم الدعاية المغرضة أنه تم تدويبه في الأسيد، هاهو حي يرزق والغريب أنه يبتسم، لاشك أنه يسخر من القتلة ومن كل الأنظمة الشمولية بما فيها بلاده العزيزة المغرب، وهاهي صورة الرجل الكبير تشي غيفارة يرفع سيجارته المفضلة وينظر باضظراب واضح، كان متأكدا أن أفكاره التحررية ستكون سببا في قطع رأسه الذي كان لايتوقف عن التفكير في تدمير الرأسمالية وأبطالها القتلة، ياللمفاجأة، كيف اجتمع هذين الرجلين الكبيرين في حجرتي، فعلا إنها حجرة ملعونة. تقدمت خطوة إلى الأمام، فابتسمت من هذا المنظر الجميل والمثير، حيث تم وضع رواية " حب وقمامة " للروائي التشيكي إيفان كليمان على مكتب من الحديد، أنا لم أراه من قبل، لقد تركت مكتبا من الخشب المعروف بالصنوبر الأحمر، كما أنني لا أتحمل رؤية الحديد لأنه يحيل مباشرة إلى السجون، والأقفال، والأصوات المقلقة والمفزعة، والقلوب القاسية، لكن الغريب أن عنوان الرواية جاء منسجما فيما يخص الحب الذي لازال يسكن كل دواخلي لكل شبر من هذه الحجرة وذكرياتها وكذا كلمة القمامة على صورة الغلاف والتي تترجم حقيقة هذه الغرفة التي تعيش أعظم شتات. يالها من مفاجأة، مجموعة كتب جرجي زيدان لازالت مجمعة لم يسقط منها ولو كتاب واحد، كم هي جميلة ، فكل غلاف كتاب يحمل صورة فتاة، هاهي شجرة الدر وتليها فتاة غسان، وفتاة القيروان واللائحة طويلة، الكثير شككوا في هذا الرجل العصامي الذي حاول أن يكتب تاريخ المسلمين من خلال الأدب وحاول أن ينقله بفنية كبيرة من خلال التركيز على قصص المرأة، ولهذا فهو ينتصر للأنثى في كل أعماله باعتباره مسيحي الديانة ولأن هذه الأخيرة تنتصر في كل شيء للمرأة العظيمة وهي الأم مريم. هاهي الروايات مشتة هنا وهناك كرجل مخمر يريد أن يتواجد في كل مكان ويتكلم بصوت مرتفع ليسمعه الجميع أنه موجود، هاهي رواية الإخوة كارامازوف لاتحتاج إلى تعريف ولا شهادة ميلاد، يكفي أن تجد على دفة الغلاف صورة لعملاق الرواية الروسية دوستوفسكي فتقتنع بأن روسيا لن تكون دولة قوية بدون أفكار دوستوفسكي، مخطئ من يعتبر أن الأدب مجرد خرائط من المتاهات لكن عندما تقرأ ولو القليل من روائع هذا الكاتب الكبير تكتشف أنه لابديل عن الأدب ودوره في تغيير وجهة الشعوب نحو الأرقى والرقي. هاهي الجرائد هي الأخرى متناثرة هنا وهناك، شاهدة على التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي المغربي، كانت فعلا تستحق إسم صحافة، وفعلا كان محقا ألبير كامي عندما قال : " الصحافي مؤرخ اللحظة"، هاهي جريدة المحرر بأسمائها الكبار ومناضليها الأبرار، هاهي العلم والاتحاد الاشتراكي، وأنوال التي تم وأدها من طرف مخزن لايحترم كلمة حق، هاهو تاريخ المغرب مرمي لاأحد يستطيع جمعه وترميم بكارته التي تم إفتضاضها في ليلة ليلاء، هاهي صورة أحمد بن جلون ملطخة بالدم على قارعة الطريق، هاهي صور كثيرة لمحطات دموية وهاهي شهادات وشهود عيان على مرحلة من مراحل المغرب اختلف المؤرخون حتى على ايجاد إسم لتسميتها نظرا للقمع الشرس الذي عاشته وعاشه مناضلوها، كيف سأرتب هذه الجرائد مرة ثانية ؟ كيف سأعيد قراءة تواريخها ؟ يالها من مهمة صعبة عندما ستذكرني ببعض المحطات المؤلمة التي أريد أن أنساها . شعرت بالتعب، جلست أنظر من حولي، لا شيء تغير لازال التاريخ متوقفا، لازال البحث جاريا حول أشياء لايعرفها سوى من عاشوها، لقد تم نسيان كل شيء، لأن والموت التضليل التهمتا كل شيء، هاهي المجلات والجرائد والكتب كوثائق شاهدة على أحداث حدثت بالفعل وبالتخطيط وليس بالصدفة، لكن لاأحد يعرفها من هذا الجيل ولايتكلم عنها، والخطير لاأحد من هذا الجيل يطالب بمعرفتها ودراستها كمادة من مواد التاريخ، إنه تاريخنا الحقيقي، وليس التاريخ الرسمي الذي لايتحدث سوى عن المنجزات، هل هناك من كُتاب أو مثقفين يستطيعون رفع شعار " نريد أن نعرف " كل شيء عن تاريخنا المنسي والمرمي مثل هذه الجرائد والكتب في حجرتي الملعونة.