هناك مثل شعبي مغربي يقول "الطماع من سعد الكذاب."أسرد هذه المقولة الشعبية ليس من أجل تحليل سلوكيات بعض البشر الذين تطغى عليهم الغرائز الانتهازية في تحقيق أرباح شخصية رغم ما يمكن أن ينتج عنها في بعض الأحيان من نتائج عكسية وعواقب وخيمة على أصحابها. بل إن سردي لهذه المقولة الشعبية هو بالأساس لتبيان حجم الضرر عندما يتحول هذا السلوك الى سياسات تتبناها الدول و الحكومات التي عليها واجب استحضار كل المعطيات الداخلية والخارجية من أجل صياغة استراتيجية دقيقة موجهة لعلاقاتها الدولية ، بدل الاستكانة إلى الهدايا الملغومة التي تقدمها بعض الدول العظمى ، التي لا تجد حرجا في قول الشيء والعمل بنقيضه إن كان ذلك يخدم مصالحها الاستراتيجية. في حالة المغرب يمكن القول أن اعتراف الرئيس الأمريكي الأسبق بمغربية الصحراء .والبناء عليه من طرف الدبلوماسية المغربية في تقييم علاقاتها الدولية ينطبق عليه المثل الشعبي السالف الذكر. بالرجوع الى هذا الموقف ، يمكن الجزم منذ الإعلان عنه، انه موقفا مشكوكا فيه سواء من حيث جديته، او غاياته ،أو من حيث موقع أمريكا كدولة تدعي حرصها على تطبيق الشرعية الأممية بصفتها عضوا من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي الذين عليهم واجب الحياد في القضايا المشابهة المعروضة عليه، وهو ما كان يتطلب من الدبلوماسية المغربية الترحيب بالموقف، مع التأني في البناء عليه ريثما يتحول الى موقف ثابت لدى الإدارة الأمريكية. كما أن توقيت الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء لوحده يطرح أكثر من تساؤل ،وكان على الدبلوماسية المغربية ان تنتبه اليه مع أخذ الحذر اللازم من مقاصده وعن مدى جديته و قدرته على تغيير مسار قضية الصحراء في اتجاه حل يرضي المغرب .وذلك بدل الارتهان لهذا الموقف والبناء عليه كانتصار استراتيجي محدد في العلاقات الخارجية المغربية. خاصة ان كل العوامل المحيطة بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء سواء من حيث السياقات الاقليمية والدولية التي جاء فيها والتي طغى عليها من جهة الاندفاع الأمريكي في مرحلة إدارة دونالد ترامب في سبيل إنجاح وإتمام مشروع صفقة القرن القاضية بتصفية القضية الفلسطينية و توسيع دائرة تطبيع العلاقات العربية والمغاربية بإسرائيل. ومن جهة اخرى كان الاعتراف بمثابة خطوة من امريكا لجر المغرب الى صفها و أثناء هذا الأخير عن التوجه شرقا خاصة بعد كل ما حققه من تراكمات إيجابية في سياساته الخارجية مع كل من روسيا والصين، وذلك حتى تقطع أمريكا الطريق على هاتين الدولتين المصنفتين من قبلها خصوما استراتيجيين من التموضع في منطقة جيواستراتيجية بعمقها الإفريقي واطلالها على مضيق جبل طارق. إن أمريكا بهذا الاعتراف تكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد، تبين لاحقا ان الحجر جيريا تفتت مباشرة بعد ان اصاب هدفه ،كما تفتت الموقف الأمريكي مباشرة بعد صعود الادارة الامريكيةالجديدة، وما تلاها من مواقف أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها عدائية و متصلبة تجاه ملف الصحراء . كما أن ما يدعو للشك في الموقف الأمريكي منذ البداية هو تلك الصيغة المؤيدة و المنحازة كليا لسيادة المغرب على صحرائه بما يتعارض والموقع الذي تحتله أمريكا على المسرح الدولي الذي يقتضي منها الحياد في مثل هذه القضايا. وهو ما دفع بدوائر صنع القرار الأمريكي لاحقا الى الالتفاف عليه حفاظا على ما تعتبره هذه الدوائر مصداقية أمريكا في المؤسسات الاممية ومجلس الأمن التي تدعي حرصها عليه، الى جانب باقي الاعضاء الدائمين فيه ، بالتالي فان اعتراف الرئيس الأمريكي بمغربية الصحراء هو خروج بالنسبة لهذه الدوائر عن الحياد الذي يجب أن تلتزم به امريكا وباقي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن في ملف أممي تتجاذبه أطراف عدة. هذا في الوقت الذي نعلم كذلك أن امريكا لو ارادت كدولة الوقوف الى جانب المغرب من اجل حل النزاع في الصحراء على أساس مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب. كانت لتدعمه بطرق غير مباشرة ، عبر الضغط على الكثير من حلفائها لتغيير موقفهم لصالح هذا المقترح، أو في قرارات مجلس الامة ذات الصلة بالملف . بل على العكس من ذلك تماما فان امريكا حاليا هي من تتشدد في ملف الصحراء ،ابتداء من عدم حث إسرائيل ،التي دفعت بالمغرب للتطبيع معها ، على الاعتراف بمغربية الصحراء، وانتهاء بتقرير الكونغرس الأخير المرفوع للرئيس الامريكي القاضي بعدم بيع الاسلحة للمغرب و بعدم توسيع قاعدة المناورات العسكرية معه ،بعد أن اشترطها بمدى احترام المغرب لحقوق الإنسان في الصحراء الغربية ،ومدى التقدم الذي يحرزه في الحل السياسي مع جبهة البوليساريو. ان المغرب بنهجه الانفعالي والغير المدروس في تدبير علاقاته الخارجية وملفات وحدته الترابية والاقتصادية ، وجد نفسه حاليا في موقع لا يحسد عليه سواء: -من حيث رهانه الخاسر على أمريكا التي تبين أنها لا تهتم سوى لمصالحها ولو كان ذلك على حساب اصدقائها والامثلة على ذلك كثيرة بما فيها من تعتبرهم حلفاء تقليديين. و يمكن أن نسوق من باب المثال وليس من باب الحصر ، كيف اختطفت صفقة الغواصات الفرنسية الاسترالية، وما بالك بعلاقاتها ببلدان يعتبرها العقل السياسي الأمريكي تابعة وخاضعة. -أو من حيث ما أوحى به هذا الرهان الخاطئ من إحساس بالقوة لدى دوائر صنع القرار السياسي في المغرب، دفع بهم إلى التخلي عن استراتيجية تعدد الشركات والانفتاح شرقا على قوى عالمية صاعدة بقوة على المسرح الدولي التي تم اعتمادها في العقدين الماضيين . بالاضافة الى تبني سياسات متشددة في علاقات المغرب مع جيرانه وشركائه التقليديين من الأوروبيين علاقة بملف الصحراء. هذا في الوقت الذي نعلم فيه أن المغرب عمليا يمارس سيادته عليها بشكل شبه كامل وأن عامل الوقت لصالحه وعليه تدبيره بشكل جيد. هذا مع العلم ان مقاربة ملف السيادة الترابية للمغرب كان من المفروض أن تكون شاملة تحيط بإشكالية الاستعمار التي لازالت أجزاء من المغرب خاضعة له. وان التماطل في عدم طرحها على المحافل الدولية والعمل على استرجاعها وفق رؤية استراتيجية ، هي من يشجع مع الوقت بروز نزاعات حولها كما حدث مع الأقاليم الصحراوية الجنوبية. خلاصة: أن الدبلوماسية المغربية بما عبرت عنه من حماسة تجاه الموقف الذي عبر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق المؤيد لمغربية الصحراء ،و بما تلاه من تطبيع مع الكيان الاسرائيلي الذي جعلت منه أساسا لإعادة بناء علاقاتها الدولية و دافعا للتشدد في علاقاتها بشركائها التقليديين من الأوربيين، وفي نفس الآن التخلي عن ما تمت مراكمته من شراكات مع كل من روسيا والصين. أبانت عن غياب رؤية استراتيجية مدروسة لفهم التقلبات التي تشهدها العلاقات الدولية، وما يعتمرها من مصالح معقدة تتطلب تحديدا دقيقا لمفهوم الدولة الحليفة أو الصديقة الموثوق فيها ،من غيرها من الدول التي أبانت التجارب السياسية والتاريخية عن عدم مراعاتها لمصالح غيرها. بل وقدرتها على التضحية بها عندما لا تجد مصلحة لها في ذلك . إن هذه التقلبات المفاجئة في السياسة الخارجية للمغرب هي من جعلته يراكم الكثير من المشاكل مع شركائه التقليديين. و هي من سيبقيه في دائرة الشركاء الغير الموثوق فيهم حتى وإن أقدم على اعادة اصلاح علاقته بهم .كما هو الشأن مؤخرا مع ألمانيا التي لم تبدل من موقفها الحيادي من ملف الصحراء ، أو مع فرنسا التي عملت على حشر المغرب مؤخرا في الزاوية الضيقة بعد ان استضاف برلمانها في جلسة خاصة ممثلا عن جبهة البوليزاريو، ومنحها حق اللجوء السياسي لمعارضين للنظام السياسي المغربي . او على العودة الى المبادرة الصينية الحزام والطريق التي سبق للمغرب أن وافق عليها سنة 2017 دون أن يفعلها بعد انحيازه الكلي إلى جانب أمريكا وحليفتها إسرائيل التي رغم تطبيع المغرب لعلاقاته معها ،على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لا زالت غير معترفة بمغربية الصحراء . كل هذا يدفعنا للقول ان موقف دونالد ترامب التكتيكي من الصحراء بعثر كل أوراق القوة في الدبلوماسية المغربية ، و وضعها في مأزق لا تحسد عليه.