المدير العام لمنظمة "FAO" ينوه بتجربة المغرب في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والغابات تحت قيادة الملك محمد السادس    طريق المغرب للتحول إلى "بلد البترول والغاز"!    بيدوفيل في قبضة أمن بني ملال    مجلس النواب ينتخب أعضاء المكتب .. وخلافات تؤجل الحسم في رؤساء اللجان    وزيرة الشؤون الخارجية الليبيرية تنوه بمستوى العلاقات التي تجمع بلادها بالمغرب    غوغل تطرد 28 من موظفيها لمشاركتهم في احتجاج ضد عقد مع إسرائيل    إيران تتوعد إسرائيل: "ستندم" على أي هجوم    مصرع قائد الجيش الكيني في تحطم مروحية    الدكيك: نستعد لمواجهة ليبيا بجدية كبيرة    المنتخب المغربي للفتيان يتعادل مع الجزائر    مدير "الفاو" يحذر من تفاقم الجوع بإفريقيا ويشيد بالنموذج المغربي في الزراعة    تلميذ يرسل أستاذا إلى المستعجلات بتزنيت    شاهدها.. الإعلان عن أحسن صورة صحفية لعام 2024    ما هو تلقيح السحب وهل تسبب في فيضانات دبي؟        لماذا يصرّ الكابرانات على إهانة الكفاح الفلسطيني؟    بوركينا فاسو تطرد 3 دبلوماسيين فرنسيين    الحكومة ستستورد ازيد من 600 الف رأس من الأغنام لعيد الاضحى    طنجة: توقيف شخص وحجز 1800 قرص مخدر من نوع "زيبام"    بوريطة يشيد بمواقف ليبيريا الثابثة في قضية الصحراء المغربية    مجلس الحكومة يصادق على مشاريع وتعيينات    مطار حمد الدولي يحصد لقب "أفضل مطار في العالم"    نجوم مغاربة في المربع الذهبي لأبطال أوروبا    نهضة بركان يحل ضيفا على اتحاد الجزائر يوم الأحد في نصف نهائي كأس الكاف    المغرب متراجع بزاف فمؤشر "جودة الحياة"    البيجيدي يجدد الثقة في بووانو رئيسا لمجموعته النيابية    واش تنادم معهم الحال حيث شافوه محيح مع العين؟ نايضة فالأهلي المصري بسبب سفيان رحيمي    ما الذي قاله هشام الدكيك قبل المواجهة الحاسمة أمام ليبيا؟    السفينة الشراعية التدريبية للبحرية الألمانية "غورتش فوك" ترسو بميناء طنجة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المغرب وليبيريا يجددان التأكيد على مواصلة تعزيز تعاونهما الثنائي    هل تغير أميركا موقفها بشأن عضوية فلسطين بالأمم المتحدة؟    تاجر مخدرات يوجه طعنة غادرة لشرطي خلال مزاولته لمهامه والأمن يتدخل    أصيلة.. توقيف ثلاثة أشخاص للاشتباه في ارتباطهم بالاتجار في المخدرات    فدوى طالب تكشف موعد عرض "مروكية حارة" بالقاعات السينمائية    منير بنرقي : عالم صغير يمثل الكون اللامتناهي    هل يتراجع "الكاف" عن تنظيم نسخة جديدة من "السوبرليغ" في 2024؟    تقرير دولي يكشف عن عدد مليونيرات طنجة.. وشخص واحد بالمدينة تفوق ثروته المليار دولار    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    عزيز حطاب يكشف ل"القناة" حقيقة عودة "بين القصور" بجزء ثانٍ في رمضان المقبل!    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أكادير تحتضن الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ    تنظيم الدورة الثانية لمعرض كتاب التاريخ للجديدة بحضور كتاب ومثقفين مغاربة وأجانب    يوفنتوس ملزم بدفع أزيد من 9 ملايين أورو لكريستيانو رونالدو وهذا هو السبب    بينهم سوري.. عقود عمل وهمية والإتجار بالبشر يطيحان ب5 أشخاص في فاس    "نتفليكس" تعرض مسلسلا مقتبسا من رواية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب هذه الدولة        قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    وزارة الصحة: حوالي 3000 إصابة بمرض الهيموفيليا بالمغرب    أرقام رسمية.. 3000 مغربي مصاب بمرض "الهيموفيليا" الوراثي وها شنو موجدة وزارة الصحة لهاد النزيف الدموي    عينات من دماء المصابين بكوفيد طويل الأمد يمكن أن تساعد في تجارب علمية مستقبلاً    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمّد خطّابي يكتب: عَالِم المُستقبليّات المَهْدِي المَنْجْرَة فى ذكرىَ رحيله الثامنة.. مُثقفٌ يَستعصي على النّسيان
نشر في لكم يوم 07 - 07 - 2022

حكايات جميلة، وذكريات حميمية عفا عليها الزمن ومرّ عليها ما ينيف على ثماني سنوات ولكنّها ما إنفكّت تستعصي على النسيان ،وما فتئت تطفو بإلحاح على ثبج الذاكرة الوهنة في زخمٍ وعزم، لأنها ذكريات تتعلق بأصدقاء أصفياء، وخلاّن أوفياء قيّض الله تعالى ان يجمعنا القدر بهم على درب المحبة الخالصة،وعلى محجّة المودة الصادقة ، لا أملّ من حكايتها المرة تلو الأخرى، فالله يحبّ المؤمن الملحاح في الخير ،من الوجوه البارزة التي تطلّ بهامتها من علياء هذه الذكريات الغابرة المفكّر المغربي الباحث المعروف المهدي المنجرة رحمه الله ( الذي حلّت ذكرى رحيله الثمانية فى 13 يونيو الفارط 2022) كان لي شرف وحظوة التعرّف عليه خلال عملي مستشاراً ثقافياً فى سفارة المغرب بمدريد أوائل الثمانينات من القرن المنصرم ، كان المجرة شغوفاً بالتردّد على هذه المدينة الجميلة التي كان يشطّ بنا الحديث خلال تواجده بها عنها، وعن تاريخها، وإشعاعها، ،إذ كان على علم تام انّها مدينة تتميّز بخاصّية فريدة بإعتبارها العاصمة الأوربية الوحيدة التي تحمل إسماً عربيّاً،كما أنها من تأسيس المسلمين،وكان الحضورالعربي، والأمازيغي، الإسلامي فيها حضوراً قويّاً، ونابضاً،مشعاً ،والتي أمست اليوم من أكبر الحواضر الأوربيّة ، أسّسها في القرن التاسع الميلادي الأمير محمد بن عبد الرحمن خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس تحت إسم " مجريط" . كما كان المنجرة مولعاً كذلك بزيارة بعض المدن الإسبانية الأخرى بين الفينة والأخرى خاصّةً فى الأندلس حيث كان يُدعى لالقاء بعض المحاضرات فى العلاقات الدّولية، والعلوم المستقبلية ،أو المشاركة فى العديد من الملتقيات ، والندوات الثقافية الدولية وسواها من مجالات العلم والمعرفة والعرفان ، ولقد كتبتُ عنه،وعن أنشطته، ومشاركاته فى بعض الهذه الملتقيات فى بعض الجرائد الوطنية والعربية الدولية الكبرى الصّادرة فى لندن التي كنتُ أكتبُ فيها بإنتظام إبّانئذ منها صحيفة ( الشرق الأوسط) ، كتبتُ عنه إعجاباً منّي بفكره التنويري الثاقب ،وبعلمه النيّر الغزير، وبمداخلاته القيّمة، وإسهاماته الرّصينة فى هذه المنتديات على تعدد اختلافها .
عقل راجح وطبع مرح
كان رحمه الله ذا عقل راجح، وطبع مرح، خفيف الظلّ ، يحبّ البسط، والنكتة الظريفة، والطرفة الطريفة، والمستملحة الحلوة ،ويتميّز بتواضعٍ جمّ يجعله يعلو فى أعين كلّ من قيّض الله له أن يتعرّف عليه عن قرب .كان يستعمل بإستمرار حاسوباً صغيراً لا يفارقة أبداً منذ ذلك الإبّان ،ويستخرجه خلال محاضراته ،ويسجّل فيه مداخلاته، ويدوّن ملاحظاته ، سواء كان محاضراً، أم مشاركاً، أم مستمعاً، ولم يكن يفارقه أبداً،كان قد وضع له إسماً أمازيغيّاً طريفاً فكان يسمّيه وينعته ب " يَطّو " وهو إسم إمرأة رّيفية كانت قد لعبت دوراً كبيراً في مساعدة الجيش المغربي على إسترداد مدينة طنجة من قبضة الإنكليزعام 1095 هجرية.(أنظر مقالي فى " القدس العربي" بعنوان (شقراء الرّيف) العدد 8125 بتاريخ 4 يونيو2015).
سهرة مع أنبل الخلْق!
وإن نسيت فلن أنسى أبداً سهرة ليست كباقي السهرات التي عشتها خلال وجودي لسنوات طويلة في مدريد الفيحاء بل كانت سهرة ادب وعلم وحكمة وظرف ولطف وسياسة وكياسة وثقافة ضاربة في مختلف المجالات ،كنا نتعشى أربعتنا الأصدقاء الأصفياء المشمولون برحمة الله الواسعة الأديب الوزير محمّد العربي المسّاري، والكاتب المُبدع المتضلّع فى اللغة الإسبانية محمّد شقور، وعالم المستقبليات المنذر بآلام العالم المهدي المنجرة، وكاتب هذه السطور ،دعينا جميعا من طرف صديقنا الأبرّ المساري على مأدبة عشاء ودية فى أحد مطاعم مدينة مدريد الكائن بأحيائها العتيقة El Casco antiguo de Madrid، وعندما عندما استقرّ كلٌّ منا في مقعده الوثير في غبطة وجذل ناولنا النادلُ قائمةَ الطعام ،وألقينا نظرة ًعَجْلىَ على الوجبات ، والأطباق التي كان يعدّها هذا المطعم،بادر المهدي المنجرة رحمه الله بطلب شريحةَ لحمٍ بقري يسمّيها الإسبان Solomillo ويُنطق فى الأسبانية "سُولُو مِييّو " فقال للنادل بلغة سيرفانتيس : ( نَعَمْ أريد "سُولُومِييُّو " لأننّي أريده أن يكون لي لوحدي !) أيّ ما معناه وكما يُنطق فى اللغة الإسبانية Solo mío ،مستغلاً تقارب، وتشابه النطق فى العبارتين، فإنخرط الجميع فى ضحك مُسترسل ...وطالت السّهرة .. ويا لها من سهرة، كنّا ضيوفاً على طعام مزّ، وفكر خلاّق، وأدب رّفيع، ...وجَعَلْنَا ليلنا قصيراً – كما يُقال بالعامّية المغربية – ( يعني أنّنا قصّرنا فى ليلنا، ولكنّنا لم نقصّر قطّ فى صداقتنا،وعِشرتنا وأنسنا...) وأنستنا هذه الأمسية اللطيفة الحافلة باللحظات السعيدة ،والهنيهات الممتعة، والأحاديث الشجيّة، والأقاويل الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة ،وملأها أوعوّضها دِفْءُ الصّداقة مع مَنْ يُسمّيهم أو يُطلق عليهم الفيلسوف الفرنسي صاحب الكوجيتو الشهير " رينيه ديكارت" : ( أنبل النّاس).
مَنْ تكون؟!
والحديث عن الذكريات التي ولّت وانصرمت ذو شجون يجرّ بعضه بعضاً ، وممّا كنّا قد سمعناه عن المرحوم المنجرة أنه كان شاباً نشيطاً،وطالباً يقظاً،ومشاكساً، و مثقفاً مشاركاً بحماسٍ منقطع النظير منذ نعومة أظفاره ، منذ أن كان طريّ العود، غضّ الإهاب، فى شرخ شبابه وريعان عمره فى الحياة الطلاّبية، والثقافية، والإجتماعية،والسياسية،والشبابية ،وكان حريصاً على الحضور فى التجمّعات الشعبية التي ينظمها الوطنيّون، وكان يؤمّ طلباً للعلم والتكوين المدرسةَ والكتُّاب ( المسيد) فى آن واحد . وعندما ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإستكمال دراسته بجامعة " كورنيل" ، كان لمّا يَزَلْ فى ربيع حياته ،كان شغوفاً بحبّ الإستطلاع والاطّلاع ،والخوض فى مختلف حقول المعرفة،والفضول العلمي، والتطلّع نحو إستبطان المجهول ،وإستكناه المستقبل، وسَبْر آفاق كلّ العلوم ، وكان فضوله العلمي، والمعرفي يدفعانه دائماً إلى السّؤْل، والسُّؤال، والتساؤل والإستفسار بدون هوادة ، وبدون إنقطاع ، عن كلّ ما يخطر له فى دروب العلم، وحقول المعرفة، أو يعنّ له فى الحياة ،وذات مرّة ضاق بكثرة أسئلته وتساؤلاته ، وبفضوله ذرعا أستاذه بالجامعة فصاح به بإعجاب وإنبهار لأمام زملائه الطلبة من مختلف الجنسيات : مَنْ أَنْتَ...؟ مَنْ تكون...؟ .. who are you ? وأردفَ الأستاذ الأمريكي قائلاً : تساؤلاتك الدقيقة المتوالية ستجلُبُ لك الكثيرَ من المعرفة، ولكنها قد تجلب لك معها كذلك الكثيرَ من المتاعب .
"قِيمَةُ القِيَم" للمهدي المنجرة
وفى إطلالة عاجلة ولكنها لا تخلو من فائدة على فكر وبعض تامّلات المهدي المنجرة فى المجتمع،والتنميّة، والثقافة،ومستقبل الثقافة، والإقتصاد، والعلم، والتعلّم التي تعتبر من المقوّمات الاساسية فى حياة الفرد والجماعة فى محيطه الإجتماعي، فى عرض قيّم، ودراسة متّزنة ورصينة لتقية محمّد فى هذا الصدد لكتاب " قِيمَةُ القِيَم" للمهدي المنجرة نقرأ بكلّ إعجاب : " أنّ المؤلف يُولي الاهتمامَ بمختلف القيم الموجّهة للمجتمع توجيهاً صواباً سواء من داخله أو حتى فيما يمكن أن يربطه بالخارج من علاقات". وكذا : "... ورغم كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسيما في أفقر الدول، حيث يزداد الإهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادراً ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصادرة منه" . وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصا بما يتعلق بدول صنفت إقتصادياً ب (دول نامية) أو (في طور النموّ) ، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطورة) مستفحلة كلما إرتبطت بما يسمّى "مساعدات" من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصاً بقطاع الإقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للإعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ أنّ أهمّ ما يمكن أن يساهم في "النهوض" إنطلاقاً من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار والتصوّرات الناتجة عنها ".
ونقرأ كذلك – حسب العَرْض الآنف الذكر – فى هذا الكتاب الرّصين من جهة أخرى حول أهمية "الثقافة المتوسطية" " التي تربط بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط ، بل أكثر من ذلك ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على إعتبار أنّ الثقافة لها إرتباط عريق ووثيق بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى " نقل الثقافة "، لأنّ التعدّد وارد بحكم أنّ لا شمولية لثقافة مّا من جهة،ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها ،وإستنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء" .
قضايا أساسية في بلدان حَوْض المتوسط
ويقول المرحوم المهدي المنجرة فى هذا المجال :" إنّ إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لبلدان حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها،لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الإستراتيجية، والسياسية ،والاقتصادية، والاجتماعية،والثقافية إلخ..أضف إلى ذلك أنّ هذا المستقبل غير قابل للإنقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معاني سامية".. وعليه فإنّ مفهوم "الثقافة" بما تضمره من أبعاد – حسب المنجرة – لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها فيما بينها، ولما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل، ويؤكّد المنجرة فى هذا القبيل كذلك : "إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شئ من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالإطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما إزددتُ إهتماماً بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة".
وفى مَعْرِض حديث المنجرة عن "الهويّة الثقافية" التي يعتبرها سبباً في وجود "منظومة القيم" وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول :" بأنّ هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الإنتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية " . ويركّز المفكّر المنجرة – حسب تقية محمّد – على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية " التعلّم " من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أنّ أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي (القيم) مشيراً فى هذا المضمار: "وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور للحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول".
أقوال وشهادات في حقّه
قيل فيه، أو بالأحْرَى قيل عنه : " من حسن حظ المغاربة أنّ المهدي المنجرة هو واحد منهم، وإذا كانت لدى جنوب افريقيا مناجم الذهب ،ولدى مصرالأهرام ،ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسمك والمهدي المنجرة. يرى بعيداً مثل صقر، ويحلّق عاليا كطائر، ويتكلّم مثل حكماء الجبال في الصين القديمة. وهو حين يتكلم، فلكي يقول شيئا . هذا " المنذر بآلام العالم "، كما قال عنه ميشال جوبير مرّة، يشرف اليوم على الثمانين حولاً، ولكن الجلوس إليه ساعات يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق. جاب هذا الطائر الحكيم أزيدَ من مائة وأربعين دولة عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة ،والمعرفة، حاور ثقافات، وجاور معالم حضارية، ولامس أفكاراً وناظرعقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيّ صغير في غرفة ضيّقة تحوطها كتب بكل اللغات ليقول لك الخلاصة: " بهذا يعرف الله " ! .المهدي المنجرة رجل واحد بصيغة المجموع . إنّه المفرد حين يكون جمعاً ".
لا كرامة لنبيٍّ بين قومه..!
كان المنجرة كما هو معروف لدى القاصي والداني عالماً جليلاً ، ذا عقل راجح بشهادة علماء ومفكّرين أجانب مرموقين ، إلاّ أنه قوبل بالجحود، والنكران من طرف بعض أبناء جلدته، وبني طينته،وقومه ، ولا غرو، ولا عَجب فلا كرامة لنبيٍّ بين قومه..! كما نُسِجتْ أباطيل ،وحِيكتْ مزاعم،وادّعاءات وأباطيل حول مدى تكوينه العلمي ،ومستواه الأكاديمي ،إلاّ أنه مع ذلك أمكنه أن يتسنّم منازلَ عليا، وأن يتبوّأ مراتبَ رفيعة، وأن يُدرك أسمىَ المنابر العلمية على الصّعيد العالمي والوطني وأرقاها ، وأن يحظى باحترام الأوساط الثقافية، والعلمية، والفكرية، والسياسية فى مختلف أرجاء المعمور، وقد بدأ نجمه فى السّطوع عندما طفق يتحدّث عمّا أصبح يُطلق عليه اليوم " حرب الحضارات"، ولقد إعترف له بالتألق،والتفوّق ،والنبوغ المفكر الأمريكي المعروف صمويل هنتنغتون، ونوّه بقصب السّبق الذي أدركه فى هذا المجال فى كتابه الشهير "صدام الحضارات"
وبمناسبة مرور ثماني سنوات على رحيل المهدي المنجرة نستحضر في هذا المقام ما قاله في حق هذا المثقف الحصيف ثلّة من الاساتذة، والباحثين والمفكّرين المغاربة الذين عرفوا المنجرة،انها شهادات،ومداخلات حول فكره،وأعماله،ومسار إبداعاته ،. حيث أشار الباحث الأستاذ مصطفى محسن فى هذا السياق : " لقد كان المهدي المنجرة مثقفًا مستقلًا، يستعصِي حصرهُ في أيِّ زاوية، وحريصاً كبيرَ الحِرص على مجابهة الغوغائيَّة، والانتهازيَّة وتحنيط الأفكار، وذلك تحديدًا ما جرَّ عليه نقدًا عنيفًا".
ورصد الأديب الباحث يحيى اليحياوِي – من جهته – فى نفس المناسبة على وجه الخصوص علامتين إثنتين طبعتا فكر الراحل المنجرة ،وعملَه، وأشتغالَه،ومباحثَه، أولى هاتين الخاصّيتين الإيمان بالمنظومة، كما يتبدَى ذلك في أعماله بدءاً من ستينات القرن الماضي، إلى أنْ أنهكه المرض سنة 2010،كما أنه حسب تعبير الأستاذ اليحياوي: "كان موقنًا أنَّ التطرق إلى أمرٍ من الأمور لا يمكنُ أنْ يتحقق دُون ربطه بباقي العناصر الأخرى".
وفى معرض الشهادات،والمداخلات التي قدّمها المثقفون المغاربة، أشاد المتدخّلون وإستحضروا الفكر الخلاّق لهذا الرجل الذي- عكس ما يعتقده البعض- كان زاهداً فى المناصب العليا وذلك ما ذهب إليه، وأكّده الباحث الأستاذ عبد الرحمن لحلُو، حيث أشار فى هذا الصدد :"إنَّ المهدِي المنجرة هو الذِي كان زاهدًا فيها بالأحرى، مختاراً لنفسه ملازمة الكلمة الحرّة، التي تضيقُ بقالبٍ مؤسّساتي ينزعُ إلى توجيهها، كان إنساناً مبدئيّاً، وحتَّى لغات العصر المتداولة التي أتقنها، فنهل بها من الفكر الغربِي، لمْ تجعله ينصرفُ عن لغته، ولا هي جعلته يحجمُ عن الإنتصار لها ". إنّه المثقّف والمفكّر،الإنسان، المهدي المنجرة، الرّجل الذي هَضَم زمانَه، وشَرِبَ عُصارةَ عَصْرِه.
شهادة الاديبة اللبنانية مارلين سعادة
وتفضّلت الأديبة اللبنانية المتألّقة الأستاذة مارلين وديع سعاده وكتبت مشكورةً عمّا كتبناه في مناسبات سابقة عن المرحوم المهدي المنجرة وعن أمثاله، فقالت من فيض لطفها ونبل محتدها: " لقد جعل الدكتور محمّد خطابي من المهدي المنجرة ثروة وطنيّه، وضعها في مصافّ ثروات المغرب، ووزنها بميزان الثروات الوطنيّة في العالم أجمع! وهل أجمل، وأخلق، وأعظم من هذا التقدير لرجل فكر؟! في زمنٍ صارت تُقاس فيه الرّجال بالأموال. إن ما ذُكر في هذه العجالة يؤكّد أننا أمام رجل فكر، عصاميّ، عرف كيف يفرض وجوده وحضوره حيثما حلّ، ولعلّ أكثر مكان ترك فيه أثرًاً بعيدًا هو هذا القلب الوفيّ، الذي حفظ لنا جمال الذكرى، ونقلها بأمانة الصديق، ومحبّة الأخ، وشهامة الرّجال وأصالتهم. ليس أجمل من هذا الوفاء أستاذنا الدكتور خطّابي، فقد آليت على نفسك أن تُبقي ذكرى الكبار حيّةً حتى بعد رحيلهم، مشيرًا إليهم والى تاريخهم وآثارهم، مخلّداً ذكراهم بصوتٍ جهور، أبيت إلاّ أن توصله الى كلّ الأرض، وقد نجحت! أدامك الله أستاذنا، فقد نالنا من الخير في ذِكرك للكبار أكثر مما نالهم، لأنّ في كلّ ما تقدّمه لنا الدسم لعقولنا، والغنىَ لمعارفنا".

* كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- ( كولومبيا).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.