تم قبل أيام عقد قمة منظمة شنغهاي للتعاون في الذكرى العشرين بمدينة سمرقند، بحضور وازن لزعماء دول و قوى إقليمية و دولية لها وزنها في الساحة الدولية ، و أهمية هذه القمة نابعة من حالة الانقسام بين الغرب و الشرق، خاصة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية ، و بعد جائحة كورونا التي أظهرت حجم التناقضات بين القوى الكبرى، و التي تتمحور بدرجة أولى حول التنافس على الموارد الاقتصادية والسيطرة على مفاصل العالم و مقدراته الاقتصادية بدرجة أولى… فالعالم اليوم يعيش حالة من "الحرب الباردة" لكن ليس كتلك الذي عهدناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حدود إنهيار جدار برلين ، فخلال تلك الحقبة التاريخية تميز العالم بسيادة أربع عوامل : أولا، وضع أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة انقسام ألمانيا؛ ثانيا، حركات التحرر الوطني وموجات الاستقلال في العالم النامي؛ ثالثا، انتشار الافكار الاشتراكية والوعي العمّالي في أوروبا ومختلف أنحاء العالم؛ ورابعا، رغبة كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي في التوسع. وقد أنتج تداخل هذه العوامل الاربعة فيما بينها، ظاهرة التحالف والاصطفاف العالمي، وانقسام العالم إلى معسكرين غربي و شرقي و إلى أيديولوجيتين على طرفي نقيض. فهل العالم اليوم على أبواب إحياء إرث الحرب الباردة؟ أم أن حالة الانقسام الحالية لها خصوصياتها و ضوابطها و مؤسساتها الناظمة و الحاكمة، و منظمة شانغهاي رأس الحربة في معركة إعادة ترتيب و ضبط النظام الدولي و توزيع مناطق النفوذ و التحكم في مصير العالم ؟ فمن المؤكد اليوم أن حالة الاصطفاف الدولي و الإنقسام خاصة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية أصبحت ظاهرة وواضحة، لكن من الصعب تشبيه ما يحدث بالحرب الباردة وفقا للتعريف الذي حددناه أعلاه، فاليوم العالم يمر من مرحلة تاريخية مختلفة تماما، فرأس الحربة في المعكسر الشرقي و التحالف الدولي الذي يتشكل من دول خارج المركزية الأروبية –الغربية، رأس الحربة الصين وليس روسيا، و الصين قوة إقتصادية بدرجة أولى و لا تسعى لتصدير أيديولوجيتها ونظام الحزب الواحد ، ولا أمريكا مازالت تقود معسكرا متماسكا من الحلفاء، كما كان عليه الحال ابّان الحرب الباردة. ولا دول العالم لها الرغبة أو الاستعاد للاصطفاف وراء هذا أو ذاك. ولذلك فإن محاولة إلباس المواجهة الصينيةالأمريكية اليوم مفهوم الحرب الباردة الجديدة، تبدو عملية تفتقر للعلمية وللموضوعية… فالتوصيف الصحيح لما تعيشه العلاقات بين أكبر اقتصادين عالميين في الوقت الحالي، هو التنافس، سيما المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية….فكل طرف يحاول تعزيز موقفه التفاوضي بتشكيل تحالف مصالح، فالصين توثق صلتها بروسيا، و أمريكا توثق صلتها بحلفائها الغربيين و أيضا بشركاء إقليميين كاليابان والهند… لكن تظل هذه التحالفات مرنة و ليست صلبة ، فالهند حاضرة بقوة في منظمة شانغهاي لكن لها علاقات جيدة أيضا مع الولاياتالمتحدة و نفس الأمر ينطبق على تركيا ، و إلى حدما حتى الصين، فطبيعة هذه التحالفات تحكمها المصالح الاقتصادية و الجيواستراتيجية ، وليس بالضروة العقائد و الأيديولوجيا، لكن مع ذلك تعد قمة "سمرقند" ذات أهمية بالغة في إعادة ترتيب النظام الدولي ، و لعل عبارة الرئيس التركي " العالم أكبر من خمس" و التي تم تبنيها كشعار للقمة، تعبر على أن القوى الصاعدة تبحث عن موضع لها في النظام الدولي، و هذا ليس بمطلب جديد فمنذ انهيار جدار برلين إرتفعت المطالب الدولية بضرورة إصلاح الأممالمتحدة…فما يحدث هو أقرب لعملية إصلاح لنظام ما بعد الحرب الباردة وليس البحث عن هدم النظام و إعادة بناءه كما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. وصلة بقمة منظمة شانغهاي فإي افتح قوس لأقول بأن الوحدة والتكتل هو الخيار الأفضل و الأنجع للحد من الهيمنة الأمريكية و خلق بدائل إقتصادية و تجارية بعيدا عن المركزية الأمريكية-الغربية…أما أهم مخرجات قمة سمرقند-بنظري- و التي سيكون لها تأثير بالغ الأهمية في إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية، و الحد من الغطرسة الأمريكية، التي تعتمد لضمان إستمرار نفوذها على اللعب على التناقضات بين الدول و تضارب المصالح و خلق الأزمات… لذلك أرى أن قمة منظمة شنغهاي في سمرقند بكازاخستان هي محاولة جادة لتأسيس لعالم متعدد الأقطاب و بداية الانتقال من المركزية الغربية باتجاه الشرق… فالقمة جمعت أصحاب أكبر مصنع للعالم ، وأصحاب أكبر مصادر للطاقة وأكبر مالك لمصادر الغذاء العالمي وممثلي أكثر من نصف سكان العالم….و من أهم مخرجات القمة و التي سيكون لها بالغ التأثير في الحد من الهيمنة الأمريكية و استفرادها بالقرار العالمي، عبر سحب أروبا باتجاه الحلف الشرقي، الإعلان عن مشروع خط طاقة جديد يصل بين روسياوالصين "قوة سيبيريا 2" الذي يعتبر بديل لخط أنابيب ستريم 2 الذي كان قد أنشيء بين روسيا وأوروبا لتغذية القارة الأوربية بالغاز والطاقة الروسية بربع ثمنه في السوق العالمي..هذا الخط توقف بعد الإنتهاء من بنائه مباشرة وعلى ذلك توقف إمدادات خط سيل الشمال 1، وبهذا تكون أوربا قد قطعت شريان الحياة عن نفسها…واليوم تحولت هذه الإمدادات وهذه الخطوط من الغرب إلى الشرق لتصب بالصين والهند وباقي دول آسيا و هذا التحول سيعزز إقتصاديات أسيا و يعطيها قدرة تنافسية أكبر و يحصنها من الصدمات الطاقية عبر تأمين تدفق سلسل للطاقة دائم و بأسعار تفضيلية.. والخاسر الأكبر من هذه الخطة الاقتصاديات الأروبية التي خسرت شريان الحياة الذي كانت تستطيع من خلاله الحفاظ على قوتها الإقتصادية والسياسية والمالية، في مقابل تقوية وضع منافسيها الصين والهند وباقي دول آسيا التي حصلت على مصدر كبير وآمن ودائم وشبه مجاني للطاقة إذا ما قورن بسعر الطاقة الذي يدفعه الغرب اليوم بعد أن تم قطع إمدادات الطاقة الروسية عن أوربا بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية…وهذا كله سوف يخرج أوروبا من سباق المنافسة مع الشرق و محاولة الإقتراب أكثر باتجاه الشرق و الابتعاد التدريجي عن الأجندة الأمريكية…و لتفادي الإطالة سنحاول استكمال هذا النقاش في مقال موالي إن شاء الله تعالى، أوضح من خلاله الخيارات المستقبلية للبلدان العربية و طبيعة التحديات و المتغيرات الدولية الناشئة… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون .. إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..