''تعلمون أن أهم ما يتصف به الشيطان الذي يستطيع أن يفعل أي شيء في هذه الدنيا دون أن يتمكن أحد من القبض عليه، كونه كائناً لا مرئياً. كل من هو هنا يفترض أن يكون الشيطان. على الأقل بعقل الشيطان وبعيني الشيطان''. هذا الاقتباس الذي نقل عن عميل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مدخل لقراءة انسيابية للكتاب الذي صدر عن دار ''إكواترز'' الفرنسية في أبريل 2022 بعنوان ''التهديدات الجديدة لعالمنا كما تراها سي آي إيه''. كتاب من الحجم المتوسط على مدى 332 صفحة من تأليف عدد من المؤلفين، يتناول تقريرا مطولاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يعرض رؤيتها حول تطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعديد من الدول (أوروبا الشرقية والشمالية، دول البلطيق، الشرق الآسيوي، المنطقة العربية) مع التركيز على من وصفوه ب ''مثلث النار''، أي روسياوالصينوإيران. مقدمة الكتاب جاءت لرصد الهزات التي واجهتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مع بداية القرن الجاري، من هجمات 11 سبتمبر 2001 مرورا باحتلال العراق في 2003، وصولا إلى توقعات الوكالة الاستخباراتية حول التدخل الروسي في أوكرانيا. أمريكاوروسيا .. صراع الإمبراطوريات يتحدث الكتاب عن نظرة ''سي آي إيه'' إلى الدب الروسي الذي لم تتوقف يوماً عن تكثيف شبكته الجاسوسية داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية في إطار استراتيجية خاصة بإحداث تشققات بنيوية في المعسكر الغربي، لتزداد هذه الديناميكية حدة في ضوء التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب في أوكرانيا أو لنقل ''حرب المعسكرين على الأراضي الأوكرانية''. وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تعتبر روسيا بمثابة ''المنافس الخطير'' في الصراع على الفضاء الذي لن يكون مسرح الاشتباك الكبير في العقود المقبلة فحسب. بل قد نكون أمام ''حالة ميثولوجية'' إذا ما وجدت كائنات حية. و بأوامر ''بوتين'' بتنفيذ الخطة الرامية الى التدمير الصاعق للأقمار الصناعية الأميركية في حال حصول أي مواجهة مباشرة بين المعسكرين، وفي إطار ''صراع الإمبراطوريات'' يرى خبراء ''وكالة سي آي إيه'' أن أميركا ستكون أمام اختبار وجودي إذا لم تتمكن من بناء منظومة سوبرتكنولوجية لاحتواء الخطط الفضائية الروسية، حتى في المجالات المدنية والتجارية، كرديف للمجالات العسكرية في نظام تصفه الوكالة الاستخبارتية ب ''التوليتاري''، ثمة تلازم. فالروس في اتجاه وضع اللمسات شبه الأخيرة على خطط تتعلق بتعطيل المحطات الأميركية التي تتولى إدارة النشاطات الفضائية، ناهيك عن إعداد قوات من النخبة لنشرها في أماكن يعتبرها الكرملين محورية ومهمة بنسبة لإستراتيجياتها القادمة، وإن كانت المقارنة غير معقولة بين خارطة الانتشار الروسية والخارطة الأميركية على اتساع الكرة الأرضية خصوصا في الشرق الأوسط. فالانتشار الأميركي الذي أدى إلى زعزعة الأمن السوفياتي إبان الحرب الباردة، ''لا بد أن يزعزع الأمن الروسي'' الذي قد يكون أكثر هشاشة كون الجمهوريات التي كانت تدخل في تشكيل الإمبراطورية السوفياتية تحولت إلى عدو. بالرغم من وصف الاستخبارات الأميركية لقوات ''فاغنر'' بأنها ''استنساخ وحشي'' لتجربة المرتزقة التي اعتمدت عليها طويلاً البلدان الأوروبية في مستعمراتها، فان تلك القوات التي تلعب أحياناً دور حصان طروادة، يمكن أن تشكل قوة اختراق لا يستهان بها، ''لذلك ينبغي ملاحقة كل نشاطاتها لإظهار الوجه الروسي البشع''. الروس يعززون وجودهم في القوقاز وآسيا الوسطى بدعم أنظمة تعاني من الاهتزاز بسبب المعارضة الداخلية العاصفة، كما هي الحال مع كازاخستان وبيلاروسيا. بالرغم من ذلك، روسيا تبقى قوة مؤثرة وتحدياً دائماً للاستراتيجية الأميركية في مناطق مختلفة من العالم، ولا سيما الشرق الأوسط. ختاما، ترى الوكالة أن من الصعوبة التكهن بالانعكاسات البعيدة المدى للصراع في أوكرانيا على الاقتصاد الروسي. مبدئياً لا بد أن تكون الانعكاسات درامية. إيران.. الضلع الأخير في ''مثلث النار'' بعيون يتطاير منها الشرر ينظر إليها عملاء وكالة الاستخبارات المركزية ''سي آي إيه'' ، مع رهان مثير للاستغراب وضحك حول عودتها يوماً ما الى حضن العام سام ، كما في عهد الشاه المخلوع ''محمد رضا بهلوي''. امتدادها الجغرافي الجد استراتيجي من الخليج إلى بحر قزوين، و بحدود 5540 كيلومتراً التي تتاخم أكثر المناطق اشتعالا (العراق، وتركيا، وباكستان، وأفغانستان، وأرمينيا، وأذربيجان، وتركمانستان). مثلما هي ضرورة استراتيجية لروسياوالصين هي ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة كذلك. رهان محدود على عودة واشنطن الى الاتفاق النووي في فيينا بسبب تعقيدات داخلية وخارجية، في حين تشير''سي آي إيه'' الى أن القيادة الايرانية تدرك مدى التداعيات الكارثية للعقوبات، إن على البنى الاقتصادية، أو على البنى الاجتماعية (وعلى وجه الخصوص الأجيال القادمة). لهذا، تحاول إيران جاهدة الضغط على الإدارة الأميركية بالتصميم على رفع نسبة تخصيب اليورانيوم الى 90 بالمئة ما يجعلها عند العتبة النووية، مع ما يعني ذلك من ترددات زلزالية على معادلات القوة إن داخل الشرق الأوسط، أو في المحيط الآسيوي والقوقازي، من دون استبعاد وقوع انفجار عسكري. الوكالة الاستخباراتية على بيّنة من أن الإيرانيين يبذلون جهوداً مذهلة لتطوير قدراتهم السيبرانية، والخطر السيبراني لا يهدد المصالح ولا الوجود الأميركي في الشرق الأوسط فحسب، بل قد يهدد أيضاً الأمن الداخلي للولايات المتحدة . و بطبيعة الحال، ''إسرائيل'' تدخل في رؤية وكالة الاستخبارات الأميركية، و بلغة انسيابية إن إيران تشكل تهديداً للكيان العبري إن على نحو مباشر، بترسانتها الصاروخية، أو بترسانة حزب الله اللبناني، وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية. تهديد التنين الصيني في نظر وكالة الاستخبارات الأميركية، تسعى الصين، بخطى حثيثة إن لم يكن بخطى متسارعة، لتحقيق رؤية الزعيم ''شي جين بينغ'' بأن يجعل من بلاده أكبر قوة اقليمية في الشرق الآسيوي، بالتلازم مع التحول التدريجي الى قوة عظمى على المسرح الدولي. وفي أكثر من مكان يجهد الصينيون لإحداث فجوات في العلاقات بين واشنطن وبعض البلدان الحليفة التي تعاني، بشكل أو بآخر، من ارتباك أو من تخلخل اقتصادي. المثير هنا أن يحدث ذلك عن طريق التسويق غير المباشر لمعايير أيديولوجية حول العائدات المستقبلية الواعدة للخط التوتاليتاري في السلطة، وعلى أساس أن التعقيدات التي تواكب صراع الأسواق تقتضي الحد من الاعتماد الفضفاض على السياسات الليبرالية، هذا لا يعني أن التنين لا يستعمل، أحياناً، القفازات الحريرية في تعاطيه مع الولاياتالمتحدة إذا ما اقتضت الضرورة التكتيكية ذلك. لكن جوهر المشهد هنا أن ثمة اعتقاداً راسخاً لدى القيادة الصينية بكون الأميركيين يتقنون لعبة الأقنعة (تحت عنوان فلسفة البدائل) في محاولات الحد من الإيقاع الصيني، ودائماً في اتجاه تقويض سيطرة الحزب الشيوعي على مفاتيح السلطة . الصين تحاول، عبر مشروعها العملاق ''الحزام والطريق''، الذي يجتذب ''المصابين بالشغف المرضي بالتاريخ'' التمدد الاقتصادي وربما التمدد حتى العسكري، على امتداد هذه الطريق بأصدائها الرومانسية . ومثلما ينشط الروس جاسوسياً في الداخل الأميركي، كما في الداخل الأوروبي والياباني، ينشط الصينيون للحصول على معلومات حول ما يتحقق إن في مجال التكنولوجيا العسكرية أو في مجال التكنولوجيا الصناعية .