كما تتقلب الأرض في مواسمها، يتقلب الإنسان في عمره، حيث كل فصل يمرّ كأنما يعيد الحكاية بلونٍ آخر، ورائحةٍ أخرى. فالحياة كما يعرف العارفين ليست سوى دائرة من الضوء والظل، تبدأ بنداءٍ طفولي- غرغة- وتنتهي بصمتٍ حكيم نسميها غرغرة' . الربيع – الطفولة: في الربيع، يولد العشب من رحم الأرض كما يولد الطفل من دفء الأم. السماء صافية، والمطر خفيف كدمعة فرح. الطفولة هي ربيع الإنسان، فيها تتفتح الحواس كالأزهار، وتتعلم العين دهشة اللون، ويتعلم القلب البراءة قبل أن يذوق طعم الخوف. فيها ونحن لا نفقه شيئا، يركض الصغير وراء الفراشات، غير مدرك أن الرياح قادرة على اقتلاع كل شيء ذات يوم. الصيف – الشباب: ثم يقبل الصيف كعمرٍ مندفع، ساخنٍ، متمردٍ. الشباب هو فصل النار والاندفاع، فصل الحلم حين يعتقد المرء أنه خالد وأن الأفق ملك يديه. وفيه يغامر الإنسان كالنهر الخارج عن مجراه، يبحث عن ذاته في العواصف، في الحب، في الخطأ، في المغامرة. لكن في عمق هذا الضوء، يختبئ أول ظلٍّ للإنهاك. الخريف – النضج: الخريف ليس انطفاءً، بل حكمة. هو زمن الألوان العميقة البهية، حين تتعرى الأشجار لا خجلاً، بل استعدادًا لتجددٍ آخر. في هذا الفصل يصبح الإنسان أكثر صمتًا، أكثر قربًا من ذاته. يدرك أن الجمال لا يقاس فقط بما يزهر، بل بما يسقط برقة دون مقاومة. الخريف هو فصل مراجعة الحياة، حين يبدأ المرء بتصفية قلبه من زوائد الغضب والطموح الفارغ. الشتاء – الشيخوخة الظالمة: ثم يأتي الشتاء، قاسياً أحياناً كحكم العمر. الريح باردة، والمطر يطرق النوافذ كما تطرق الذاكرة باب القلب. الشيخوخة ليست عجزاً، بل موسم تأمل، غير أن ظلمها يكمن في بطء الجسد ووضوح النهاية. فيها يدفن الإنسان بعضه تحت لحاف الصمت، ويكتفي بالنظر من نافذة الزمن إلى ما كان. ومع ذلك، في الشتاء أيضًا تكمن بذور الربيع القادم، لأن الحياة لا تموت، بل تنام كي تولد من جديد. الخاتمة ما بين ربيع الطفولة وشتاء الشيخوخة، لا يعيش الإنسان أعمارًا متتابعة فحسب، بل يعيش دورةً كاملة من الضوء والظل. فكل فصلٍ من فصوله يحمل نقيضه في داخله: في الطفولة بذرة الشيخوخة، وفي الشيخوخة ذكرى الطفولة، وفي كل شتاءٍ وعدُ ربيعٍ قادم. هكذا تتكرر الحكاية في صمت الطبيعة وقلق الإنسان، وكأن الوجود نفسه لا يريد أن ينتهي، بل يواصل دورانه الأبدي بين الولادة والأفول، بين الأمل والخذلان، بين البدايات التي لا تملّ والنهايات التي تتجدد. فالفصول ليست مجرد زمنٍ عابر، بل لغة الحياة السرّية التي تذكّرنا أننا – مثلها – لا نموت، بل نتحول.