إن أهم ما يلفت الأذهان، في خطاب ما بعد الاستعمار، أن الغرب ذاته، أو "الآخر"، هو من كان، وعبر "الاستعمار المباشر"، في أساس "تشكل العالم الثالث" والتخلي عنه بالتالي لفائدة استعمار من نوع آخر هو "الاستعمار الداخلي" الذي أخذنا، وبعد عقود بأكملها، نسمع عنه، وعلى وجه التحديد مع انطلاق شرارات ثورات العالم العربي منذ أواخر العام 2010 الذي ودَّعه العرب، هذه المرة، ورغم جراحه المفتوحة وكسائر الأعوام، غير آسفين، لأنه لأول مرة سيحِّسون فيه أنهم حقا داخل التاريخ وليست خارجه أو على هامشه. وقد حصل هذا كل هذا "التأخر التاريخي" (إذا جاز اصطلاح عبد الله العروي) مع أن الاستعمار الداخلي لم يكن، في أي فترة من الفترات، يقل خطورة عن الاستعمار المباشر أو الاستعمار الاستيطاني. هذا إذا ما لم نقل بأن الاستعمار الداخلي يتلاقي مع الاستعمار الأخير في الاستحواذ على منافذ كثيرة في مقدمها منفذ المنافذ المتمثل بالأرض التي هي مصدر الخيرات جنبا إلى جنب الاستحواذ على الإعلام لضمان التكتم على استرسال الاستنزاف. وكان الحكام العرب، وإلى حدود السبعينيات النازلة، قد أكدوا "خيار الاستبداد" باعتباره خيارا لا يعلو عليه خيار آخر. وكل ذلك في المدار الذي أفضى، وقبل انفجار الثورات العربية، إلى نوع من القبضة الفولاذية على الشعوب. إضافة إلى عائلة الحاكم التي صارت، بدورها، وفي إطار من "غمزة الدستور"، تشارك الحاكم حكمه المطلق. وكل ذلك أيضا في المدار الذي لا يفارق الفصل ما بين الثروة والسلطة، وفي إطار من "الجمهورية التوريثية" التي تحققت في حال سوريا والتي كانت "مؤكدة"، وبقوة "كعكة الدستور"، في مصر. وهو ما كان في طريقه إلى التحقق في ليبيا، لكن هذه المرة بقوة "قانون الاستبلاد والحماريات". وهو ما كان في طريقه إلى اليمن كذلك وبقانون آخر غير بعيد هو قانون العناد. وكانت الحصيلة ما بين ثلاثة إلى أربعة عقود من الحكم في كل من ليبيا ومصر واليمن وسوريا (بالنظر للنظام البعثي ذاته)، فيما فترة زين العابدين التي تبدو الأقصر لم تكن تنقص الأنظمة الأخيرة ثراءً على مستوى ممارسة الاستبداد وإشراك العائلة في "الداء الرئاسي". والأرعن أن جميع هذه الأنظمة تتساوى في "الجنون الرئاسي"، ولا نظن أن وين العابدين أو حسني مبارك كان سيقبل بالنهاية التي انتهى إليها، ولولا وصل الجيش في البلدين معا ما بين "السلطة والخير"، تبعا لعبارة نجيب محفوظ التي ذكرنا بها مؤخرا أحد الكتاب اللبنانيين، لكانت مصر وتونس في "الأبوكاليبس" (جهنم أرضية) التي عليها سوريا وليبيا واليمن إلى حد ما. فالحاكم العربي أكد أنه غير قابل للتخلي عن الحكم، ولا لموقف سياسي وعلى هزاله وإنما لجينات كرموسته التي لا تقبل ذلك. ولهذا كابر القذافي على أن يواصل الحكم ولو من داخل جحر، فيما تأبط علي صالح "قيثارة الحكم" محروقا... أما حسني مبارك الذي غادر كرهاً، بعد أن رفض التنحي طوعاً، فكان قد قال "إنه باق حتى آخر الدورة"، وقبل الثورة وعد "بأنه سيظل يحكم ما دام هناك قلب ينبض ونفس يخرج!". ولذلك فإن ما يقوم به، الجرَّاح، بشار الأسد هو ما كان سيسارع إليه، من قبل، صنوه، في السعار الرئاسي، معمر القذافي. ولولا "تدخل القوات الدولية"، التي حرمت هذا الأخير من رشف "كوثر الانتصار" في جماجم "الثوار، لكان "ملك ملوك إفريقيا" قد سوَّى بين البشر والشجر والحجر. فكلاهما يفكر ب"خيار الإبادة". وإذا كان القذافي، وفي إطار خرجاته الإعلامية المتهورة، قد أكد "أن من لا يحب القذافي لا يحب ليبيا"، فإن الثعلب الأسد، ونتيجة بعض الارتباك الدولي، ترجم ذلك على أرض الواقع، ودونما إيلاء أي أهمية، ولو صغيرة ورمزية، لنصائح "الأصدقاء" بل "الأعداء"، ودونما وهذا هو الأخطر أي تقدير لجميع المعطيات المحلية والمتغيرات الإقليمية والدولية التي تشير إلى أن "خيارا" من هذا النوع يرتبط بمرحلة لم يعد لها من مكان في "قارة التاريخ". وخيار من النوع الأخير، كذلك، ومع فوارق في الدرجة وليس في النوع، هو ما كان قد أمر به زين العابدين لولا "إفاقة الجيش"... وهو ما بدا "بعيدا"، إن لم نقل "مستحيلا" بالنسبة ل"حكيم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" (حسني مبارك) الذي أربكه "الطابع الحضاري" ل"مليونيات ميدان التحرير" والذي يظهر أنه اطمئن ل"وعود وترتيبات داخلية" تجعل منه "محمية طبيعية" لا يمكن المس بها؛ وهو طموح هِرم، هرَم صاحبه، وبدا أنها تبخر مع اقتياده، المهين، إلى قفص المحكمة. فالطغاة يتغذون من المراجع ذاتها أو إنهم "نسخة مكرورة" كما قيل. وعلى الرغم من أن العام 1962 كان قد شكَّل لحظة مفصلية في تاريخ الحركات الاستقلالية، وهو العام الذي حصلت فيه الجزائر التي عانت أبشع استعمار على استقلالها، فإن العالم العربي، ومنذ تلك الفترة، لم ينعم في أي عقد من العقود، ب"استقلاله التام". ومن ثم فإن الشعار الذي كان يرفع على الاستعمار البريطاني: "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، ظل ينطوي، وفي سياق مطلب "ترهينه"، على أكثر من دلالة إلى أن حصل ما حصل مع "شعلة البوعزيزي". وثمة أكثر ما يؤشر على استرسال الاستعمار، لكن في صيغة أخرى هي صيغة الاستعمار الداخلي الذي كان قد مهَّد له الاستعمار الاستيطاني الطريق. هذا وقد حرصت بعض البلدان الاستعمارية الكبرى على تتبع ومراقبة ما يحصل في داخل البلدان التي استعمرتها من قبل حتى تظل "تابعة". ولذلك لم يكن غريبا أن يعارض الثائر المغربي المهدي بن بركة على أول دستور بالمغرب (1962)، سيطرح على التصويت، ناعتا إياه، في مقدمة "الاختيار الثوري"، ب"الرجعي المصنوع في مخابر الاستعمار الجديد". وهو الدستور الذي سيتم ترسيمه من قبل "القوة الثالثة" التي كان قد "شرَّحها" المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في الأعداد الأول من مذاكرته "مواقف". وهو الدستور الذي لا تزال فصول منه يؤخذ بها حتى الآن. وفي ضوء ما سلف لا يبدو غريبا أن تتبدى، هنا، دلالات المثل القديم: "مات الاستعمار يحيا الاستعمار!". والمؤكد أننا لا نقصد، هنا، إلى "الاستعمار الثقافي" أو "الاستعمار الفقهي" أو "الاستعمار الذكوري"... وهي أشكال حاضرة، وبتفاوت، في العالم العربي. فنحن نقصد، هنا، إلى الاستعمار في "فجائعيته" أو "فجاعة الاستعمار" و"فضاعات الاستعمار". في شهر ماي من عام 1958 قال الجنرال شارل دوغول (Charles de Gaulle) لأندري مالرو (André Malraux) (ووقتذاك لم يكن هذا الأخير وزيرا للثقافة): "المستعمرات، انتهت! ينبغي أن نفعل شيئا آخر !" "Les Colonies, c'est fini! Il faut faire autre chose" فما الذي حصل من غير ترسيخ الذين تم إنتاجهم في معامل السياسة الاستعمارية والتصدي بالتالي وفي إطار من لعبة "الالتزام الكولونيالي" (Engagement colonial) لجميع محاولات "معادة الاستعمار" (Anticolonialisme). وفي هذا الصدد تذكرنا صاحبة كتاب "قلوبهم معنا وقنابلهم علينا"، الكاتبة الجزائرية أحلام مستغنامي، برد لكرومر، يوم كان حاكماً على السودان، وجاء من يسأله: "هل ستحكم أيضاً مصر؟"، فأجاب "بل سأحكم من يحكم مصر!". فالمحتل لا يحتاج اليوم إلى أن يُقيم بيننا ليحكمنا.. إنه يحكم من يحكموننا، ويغارون على مصالحه، بقدر حرصه على كراسيه كما تواصل الكاتبة نفسها. وهذا ما جعل العالم العربي يعيش في إسار مما يسميه جورج بلانديه ( HYPERLINK "http://www.lemonde.fr/sujet/4295/georges-balandier.html" Georges Balandier) ب"الوضعية الكولونيالية" (Situation coloniale) التي نعيش لا نزال نعيش تداعياتها لغة واقتصادا... وثقافة. وقد يرع الحكام العرب في التقاط الإشارة، والقيام بالتالي بما ضمن لهم مواصلة الالتصاق بالكراسي. ومن ثم لم يبدو غريبا أن يعلن صقور إسرائيل عن أسفه لمحاكمة "حكيم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، فيما صمت الغرب عن "جرائم القذافي مقابل زيت العالم وتكديس الأموال في الأبناك الغربية وإلى الحد الذي جعل من "مجرم حرب" في شكل طوني بلير "صديقا" لعائلة القذافي. وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة إلى منجزات العابدين في مجال محاربة الإرهاب. وحتى بشار الأسد، وفي سياق الشرق الأوسط الجديد، ضمِن، ومواصلة لمسار أبيه، تأمين الحدود مع إسرائيل. لقد كانت سوريا البلد الوحيد الذي ضمن تأمين الحدود مع إسرائيل لعقود. "أمان لم يتحقق حتى على الحدود الإسرائيلية مع الدول العربية التي وقعَّت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، فأعظم إنجازات نظام الأسد الدولية، الأب والابن، هي الحفاظ على حدود آمنة مع إسرائيل" كما يذكرنا معلِّق عربي" (جريدة "الشرق الأوسط"، 10/08/2011). وكان من نتائج ما سلف ما تجاوز الوضعية الكولونيالية سالفة الذكر، ذلك أن الاستعمار إذا كان قد أكل الأخضر فقط فإن المستبد العربي أكل الأخضر واليابس معا. وكان المدخل، المصاحب، لذلك هو "الاستبداد السياسي" الذي لا مجال فيه لغير "نعم كبيرة" ولغير "عقيدة التسعات الأربع"... في الاستحقاقات التي يغيب فيه المنافس أو لا يحضر إلا من أجل الديكور. وهذا الاستبداد حوّل العالم العربي إلى "ديكتاتورية طوارئ" و"سجن كبير" أو في أقل ضرر "قاعة انتظار كبيرة" لا مجال فيها لمقولات "التغيير" و"تداول السلطة"... إلخ. والحصيلة: تحجر سياسي فظيع ويباب ثقافي وضيع، وقبل هذا وذاك: إلغاء حتى "هامش الحرية الذي كانت تؤمنه الأنظمة الملكية التقليدية أو الذي فتحته عهود الانتداب والاستعمار " كما يقول المفكر اللبناني علي حرب صاحب "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، نحو تفكيك الديكتاتوريات والاصوليات" (2011). فلا مجال، هنا، للدولة ولو المفترسة. وهذا لكي لا نتطاول على العلاقة التي يمكن أن تنسجها الدولة، ولو عبر التنابذ، مع المجتمع المدني... وفي المدار ذاته الذي لا يستعبد "المجتمع التقليدي" في "ولائه غير المشروط". الثابت، هنا، هو "النظام" الذي يعلو على الدولة والمجتمع. النظام الذي "برع" الحاكم العربي في "تحصينه" و"تمكينه" من الكمون في الوقت المناسب ومن التمظهر في الوقت المناسب. ويشرح المثقف السوري، المعارض والأبرز، صبحي حديدي الفكرة، وفي حال سوريا، قائلا: "وطيلة ثلاثة عقود ظلّ الأسد الأب يعمل 16 ساعة كلّ يوم، كما أفادنا البريطاني باتريك سيل، مؤلف السيرة الأخلص للأسد ونظامه، من أجل بناء بنية في الحكم تتراتب بدقّة شبكة العنكبوت، حيث تُنسج الخيوط المعقدة يميناً ويساراً، أفقياً وشاقولياً، من المربع إلى المستطيل إلى الدائرة، لكي تنتهي جميعها عند المركز الأوحد الذي يقيم في قلب الشبكة، ويصنع القرار النهائي، ويرسم السياسة الأخيرة" (جريدة "القدس العربي"، 04/08/2011). ومن ثم، وفي حال سوريا دائما، فإن قتل ما يزيد عن 2400 مواطن (أغلبهم من الأبرياء)، وخطف ما يزيد عن 3000 مواطن، وسجن 150000، وإرغام 125000 على اللجوء... بل وقصف المساجد والصوامع... بل وقتل ما لا يلق عن 30 مواطن في لحظة اجتماع الرئيس مع وزير خارجية تركيا (باعتبارها نموذجا يحتذى به في الشرق الأوسط)... يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الاستعمار "المتغطرس" و"القذر" في الوقت ذاته. واستبداد من هذا النوع هو الذي وفر غطاءً للحكام العرب من أن يجازوا مدى غير مسبوق في دنيا الفساد وتحقير الشعوب. وفي الحق لقد برع الباحث اللبناني فواز طرابلسي، في مقال "الثورات تُسقِط أنظمة الأفكار أيضاً!" ، وبالأرقام، في تسطير حجم هذا الفساد الممتد على مدار العالم العربي. (والمقال، وللمناسبة، منشور في عالم النيت). فالأنظمة تسيَّدت وتغوَّلت... في إطار من الاستعمار الداخلي، مما جعل منها العدو الذي لا يغلو عليه عدو في مرآة شعوبها. ولذلك فإن "إسقاط النظام" هو، بمعنى من المعاني، نوع من "القطيعة"، وعبر الثورة، مع "الاستعمار الداخلي"... والسير من ثمَّ "على طريق الاستقلال الثاني" من أجل إعادة نوع من الاعتبار للعالم العربي الذي أثقله حكامه بمظالم الفساد والاستبداد.