إبراهيم مراكشي بزوغ مفهوم الدولة في صورتها الأولية، وليست البدائية، ببلاد ما بين النهرين، والمتجسدة أساسا في الدولة-المدينة، رافقتها خاصيتين رئيسيتين. منذ تأسيسها ومركز الدولة القوي هو الآمر الناهي، المتحكم في اتخاذ جميع القرارات المصيرية الصغيرة منها والكبيرة؛ ومن جهة أخرى جميع تلك القرارات، بل وجميع السلطات وكذا توزيع الاختصاصات كان مصدرها ومنبعها شخص الملك. إن توسع الدولة وتشعب اختصاصاتها وأجهزتها وترامي أطرافها لم يكن يعني سوى المزيد من تقوية نفوذ مركزها وزيادة غناه من خلال امتصاص ثروات باقي مناطق التابعة أو المندمجة في مجال نفوذها الترابي. في هذا الإطار يمكن أن نسوق العديد من الأمثلة من روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية في أوج جبروتها إلى دمشق الأموية في عز طغيانها وبغداد العباسية في أوج ازدهارها وتقدمها… وعلى الجملة الأمثلة في هذا الصدد متعددة ويصعب حصرها. لهذا السبب كان من المنطقي أن يشكل ضعف العواصم قديما مؤشر على أفول مجد دولها وزوال حكمها. الامبراطوريات قديما كانت تنهار بانهيار عواصمها، لأن السلطة السياسية والإدارية كانت مشخصة غير تشاركية، ممركزة في العاصمة، ومحتكرة من طرف أقلية متحكمة. لم تكن الدول قديما تسمح بأي شكل من أشكال التشاور أو تقاسم السلطة التي تتيح اشراك الساكنة المحلية في تدبير شؤونها اليومية، بل ولم تكن متسامحة مع أية محاولة أو مبادرة في هذا الصدد. فالمسؤول المحلي على الإقليم أو المقاطعة، غالبا من ذوي الخلفية العسكرية، كان يتم تعيينه بشكل مباشر من طرف الحاكم (الملك، الامبراطور، …)؛ دون أن تكون للساكنة المحلية آنذاك أية سلطة في اختياره. في هذه النقطة تحديدا نجد التشابه الكبير بين هذه الأنظمة الغابرة مع بعض الأنظمة العربية المعاصرة، فليس مستغربا أن يكون جميع المحافظين في مصر “السيساوية” ينتمون إلى المؤسسة العسكرية. لذلك فعندما نجد الأمير أو السلطان أو الملك في إحدى الأنظمة العربية هو الذي يقوم بتعيين ممثل السلطة المركزية على الصعيد المحلي، ينبغي الانتباه إلى أن ذلك تقليد قديم ترجع جذوره الأولى إلى بداية نشأة الدولة-المدينة. إذا في العصور الغابرة، لم يكن هناك أي جهاز منتخب من طرف الساكنة المحلية يتقاسم مع “الحاكم” المحلي أو يشاركه السلطات المخولة له من طرف المركز؛ حتى بعض المحطات التاريخية القصيرة المشرقة والفاصلة في تاريخ البشرية، خاصة في المدن الإغريقية، وتحديدا في أثينا -مع العلم أن 90% من ساكنتها كانت تحت نير العبودية-، أو خلال فترة الجمهورية بالإمبراطورية الرومانية، لا يمكن الاعتداد بها، فلم يكن بعد قد تشكلت حتى المؤشرات الجنينية الأولى لما يصطلح عليه اليوم باللامركزية. هذا الوضع استمر ردحا طويلا من الزمن، ولم يبدأ المشهد في التغير، وبشكل تدريجي، إلا مع هبوب رياح الثورة الفرنسية التي كانت زلزالا على النظام القديم، غير أن احتكار المركز في تدبير كل ما هو محلي استعصى عن التغيير. فرغم قيام هذه الثورة وتثبيت مبادئها وأركانها نجد أن المجتمعات الغربية، والأوربية تحديدا استغرقت ما يزيد عن قرنين من الزمان قبل أن تتمكن من إيجاد صيغة توافقية تناسبها، مكنتها من إشراك الساكنة المحلية في تدبير شؤونها اليومية، أي ما بات متعارف عليه اليوم بمفهوم “اللامركزية”. بيد أن الإشراك الحقيقي والفعلي لم ينطلق في القارة العجوز إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ما أسباب كل هذا التأخر؟ الإجابة ستطل علينا في القادم من الصفحات. رغم التطور الكبير الذي حصل منذ تلك الفترة فإن النظام القديم هذا، والمتمثل في تعيين المركز بشكل مباشر لممثل عنه على المستوى المحلي ومنحه صلاحيات واسعة، لم يختفي تماما من الأنظمة المعاصرة. لقد بات يختزل اليوم في مفهوم “اللاتمركز الإداري”. إن ما يميز الأنظمة الديمقراطية في هذا الإطار، وإن حافظت على هذا النظام القديم، إلا أنها قلمت من أظافره، وقلصت من اختصاصاته، في مقابل توسيع هامش اختصاصات الأجهزة النابعة مباشرة من الساكنة المحلية، أي الأجهزة المنتخبة من طرف هذه الأخيرة. فالاختصاصات والصلاحيات التي تمنح للأجهزة التمثيلية المحلية المنتخبة تفوق بكثير وتتجاوز ما يمنح للمثلي السلطات المركزية. هذه المجالس، التي باتت تختزل اليوم في مفهوم الجماعات الترابية، تتمتع بصلاحيات جدية وباستقلال مالي حقيقي في المجمل. في الجهة المقابلة، ما يميز الأنظمة غير الديمقراطية، أو تلك التي ما تزال تتلمس طريقها نحو الديمقراطية الكاملة، هو اختلال ميزان تنظيمها الترابي المحلي بين كفتي اللاتمركز واللامركزية؛ بهيمنة الأولى على الثانية، إذ نجد هذه الأخيرة تحت وصاية الأولى. في هذا النموذج الثاني من الأنظمة، سنجد أن لممثل المركز صلاحيات تجعل منه الفاعل الرئيسي والمحوري على صعيد التنمية المحلية. بل سنكتشف لاحقا لدى بعض الدول، المترددة في مسار بنائها الديمقراطي، أن رؤساء المجالس الجماعية رغم صدور نصوص قانونية متطورة تمنحهم صلاحيات جديدة، نجدهم مترددين ومتخوفين من ممارسة تلك الصلاحيات التي كانت في الأصل من صميم اختصاصات ممثل الحكومة المركزية؛ بل ولا يترددون في التنازل عنها عند أول إشارة من لدن هذا الأخير. الحالة المغربية تندرج ضمن خانة هذه الفئة من الدول، إذ نجد عمداء بعض مجالس المدن الكبرى كالدار البيضاء والرباط وطنجة قد تنازلوا عن اختصاصاتهم فيما يتعلق بتدبير مشاريع تنموية لفائدة ممثل السلطة المركزية (طنجة الكبرى، رباط الأنوار). الوالي أو العامل نجده في هذه الحالة هو الماسك الحقيقي بسلطة اتخاذ القرارات عوض رئيس المجلس الجماعي. هذا الأخير يكاد ينحصر دوره على سلطة التوقيع؛ بل إن جماعات بعينها بموظفيها ومواردها المالية تحولت إلى مجرد ملحقات إدارية تابعة لسيادة الوالي أو العامل. أحيانا النص القانوني مهما بدى متطورا يصعب عليه تجاوز الواقع بكل حمولاته التاريخية والذي تجذر مع مرور الوقت ليفرض إكراهات “نفسية” أثناء تنزيله.