" وأنا أتواجد في الحسيمة في جولة عمل، شاهدت اربعة مسرحيات ... كانت تحفة، متعة لا توصف " هذه الجملة التى تحمل بين كلماتها معاني ودلالات كثيرة قيلت على لسان المبدع المسرحي عبد الحق الزروالي في برنامج الصديق المبدع بلال مرميد ( مواجهة) ، وأذكر أن هذه الجملة استوقفتنى بشدة أثناء مشاهدتى للبرنامج ، خاصة وأن نقاشا ما كان قد دار بيني وبين أحد الفنانين الريفيين حول المسرح في المدينة ودوره ، قائلا عبر تعليق على رأيٍ له أن كثيراً ما تتداول بين الناس مقولة "أعطني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً"... جملة قادتني الى أسئة كثيرة في ممرات ودهاليز المسرح في الناظور المضاءة بنور خافت جدا، جدا. اعمال مسرحية أسمع عنها من حين لآخر ، لكن كلها لا اذكرها ولا اظن ان ذاكرتي تحتفظ بشيء عنها, والسبب بسيط هو ان ذاكرتي لا تحمل غير مسرحيات قديمة عانقت ذات زمن وبصدق جراحاتنا واحلامنا . نظرة بسيطة إلى كرونولوجيا 'المسرح' في الناظور .. تحيلنا الى انه قدم في الماضي اعمالاً يمكن أن نقول عنها راقية.. ساهمت ولفترات طويلة في توثيق الصلة مع الجمهور وكانت ذات مضامين فنية جميلة تعبر عن طموحاتنا وانشغالاتنا.. رغم قلة الامكانيات في تلك الفترة، إلا أنه استطاع أن يحقق ما حققه، وبفضل أعمالهم استطاع صُناعه التعريف باسمهم حتى لدى الجيل الذي أتى بعدهم... فلا زلنا نتذكر منهم أسماء كثيرة . كوَّن المسرح في تلك الفترة البناء الروحي للمجتمع الناظوري..عكس ما نشاهده اليوم وكان العاملين في المجال المسرحي يشتغلون من اجل مسرح واعد قادر على فهم احتياجات الناس من خلال مضامين مرتبطة ارتباطا وثيقا بالواقع .. لم يكونوا مهتمين بالكسب المادي بقدر ما كانوا يهتمون ببعث روح المسرح كفن راقي في نفوس الناس من خلال هذه العروض المسرحية , ومن هنا كان تركيز الممثلين على فن الاخلاص للعمل المسرحي و اختيار دقيق للمسرحيات التي كانو يقدمونها. فماذا تغير اليوم ؟ لماذا لم يعد للمسرح في الناظور حضور متميز في الحياة الثقافية كما كان من قبل ؟ طبعا لا نقصي دور بعض الفرق المسرحية التي تعرفها المدينة وبعض " الممارسين" للمسرح ، ولا ننكر بعض المحاولات التي تطفوا على الساحة من حين لآخر ، لكنها تبقى محاولات قليلة وخجولة جدا ،بل ومنها البعيدة تماما عن المسرح الذي نتوخاه ، مسرح بحضور متميز في الحياة الثقافية ، من خلال تقديمه العروض القيمة والجادة سواء على صعيد التأليف او الاخراج او التمثيل.. مسرح مجتمعي يعمل على نشر الوعي بقضايا مجتمعية مختلفة...مسرح نابع من المجتمع ومتأثر به بل ومؤثر في الواقع الذي نتحرك عبره ..هذا الواقع الموضوعي المشحون بالكثير من المفارقات والصراعات. مسرح يعبّر عن هموم الناظوري، يُضحكه -نعم!- لكن يدفعه ايضا للسؤال..وليس بالتهريج ، فالتهريج الذي يسميه البعض مسرحا لا علاقة له بفن المسرح سوى استخدام صاحبه خشبة المسرح لتقديمه ، واعني بالتهريج تلك الاعمال الكوميدية الصارخة في التناقض، والتي يكون الغرض منها هو إضحاك المشاهد بأي طريقة ، الإضحاك للإضحاك ، بل نراهم في احيانا كثيرة يعبثون حتى بقيم الفرد والمجتمع.. نريد مسرحا يستنطق اسئلة الواقع الاجتماعي والسياسي، وفق صياغات جمالية تشتبك رسائلها مع وعي المتلقي .. وبما تفضي اليه من حالات تدفعه الى التفكير والتأمل بما يدور حوله. التجارب علمتنا أن المسرح هو نبض الشارع ، والشارع اليوم اصبح واعيا جدا، وقادراً على رفع الصوت بالرفض، والمفروض ان يكون المسرح هو الآخر قادراً على ذلك... هذا ما عشناه مع المسرح في السابق (ولو على قلته) ، كان تيرمومتراً حقيقياً لما كان يجري في المجتمع ، وكانت القضايا التي يطرحها هي ذاتها القضايا التي تحرك الشارع ... قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية بكل تفاصيلها كانت حاضرة ، الحس الريفي كان حاضراً بقوة، وكان كتاب المسرحيات أكثر وعياً، رغم بساطة نصوصهم ، لكنها كانت عميقة جدا بحمولتها ومعانيها. لكن اليوم، مُيّعت كل القيم ، وباتت القضايا المحورية الكبيرة أقل أهمية، لم تعد قضايانا حاضرة في هذا المسرح ، انشغلنا بقضايا تافهة فرضت علينا تماما مثل ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وما يدور فيها من مناوشات وفضائح.. إستنزفتنا موضوعات أكل عليها الدهر وشرب ، أغمضنا أعيننا عن الفساد وعن ما يدور في الغرف السياسية المغلقة، عن الخرائط السياسية الجديدة للمدينة...أخْرجْنا المسرح عن دائرة الناس، وصار يهيم بعيداً.. يتناول قضايا ليست من انشغالات الناس في شيء، وفَقَد تواصله الحقيقي معهم. المسرح اليوم وبوصفه أداة تعبيرية ،مُطالب بأن يتناول الهمّ الجمعي والقضايا المُلحة ، وبدلا من أن ينشغل بموضوعات ماضوية حنينية – إن جاز التعبير – عليه أن يصير واقعيا أكثر ، لا أن تستنزفه موضوعات أكل عليها الدهر وشرب ، ان يتناول هموم الإنسان المعاصر الذي لا يرحمه الواقع بتبدلاته المتسارعة ليتركه منهكا ومُستنزفاً وقلِقاً على قارعة الوجود .. أسئلة المصير المُقبل و انتظار المجهول...هي هموم الانسان ولربما من خلال ذلك عثر على الأجوبة التي يبحث عنها ويبحث عنها جمهوره . اليوم إن حاولنا تصنيف ما تعرفه الساحة الفنية في الناظور من محاولات سواء بعض العروض المسرحية وعلى قلتها أو ما اصبح يعرف ب"الوان مان شو" ، فلن يتعدى وضعنا لمجمل هذه المحاولات في صنفين إثنين لا ثالث لهما؛ الصنف الأول هو ما قد نسميه ( تعسفا) ب"المسرح الجماهيري، او السهرات التلفزيونية التي تُغطيها وتغلب عليها "الكوميديا"، والصنف الثاني هو ما يمكن أن نسميه "بمسرح" المهرجانات أو المسرح النوعي في أفضل حال. هذا النوع الذي استطاع الى حد ما أن يتواصل مع الجمهور ،لا لشيء أكثر من استغلاله لحاجة الناس الى اللهو المباح والترويح عن أنفسهم والضحك، لذلك نلاحظ انه يقدم الضحك دون قيمة، دون أن يطرح على الخشبة ما يشغل الناس، قضاياهم ،انتظاراتهم ،أحلامهم.. وحتى وإن تناولها، فإنه يقترب منها بشكل سطحي جدا دون أي عمق، لان هدفه بالدرجة الأولى هو الإضحاك وفقط ولو باللجوء للسخرية أحيانا، وطبعا ليست تلك السخرية المحببة التي تخلق مفارقات كوميدية، ولكن سخرية تافهة ،هابطة تجعل من المسرح فعلاً أقرب للتفاهة. وأما الصنف الثاني فهو ذاك الذي يحاول الانشغال بالتجريب، تجريب أدوات مسرحية، واستعراض ممكنات السينوغرافيا، وأداء الممثل، لكنه يغفل ويبتعد عن تناول القضايا المهمة، القضايا الساخنة، قضية الإنسان الريفي المغلوب، ليجد الجمهور ذاته في هذه "الاعمال" التي لا تشبهه في شيء ..وهو ما قد يفسر عدول الجمهور على حضورها. لا انكر ان هناك عروضا ما ولو على قلتها ،تتخللها ولو باستحياء وخجل بعضا من الدروس والعبر وتناقش الطمع المادي والدعوة إلى الحب ونبذ الشر والكراهية .. وتتناول الجشع والحقد عندما يسيطر على نفوس البشر ويحولهم الى وحوش كاسرة لتحقيق أحلامهم.. لكن يبقى المسرح هو المرآة الصادقة للشعوب، يعكس نبض المجتمع وينافش كافة القضايا بموضوعية .. منها القضايا الراهنة وهي التي تغيب اليوم في المسرح الامازيغي الريفي بالناظور... في حين نجدها مثلا متوفرة في المسرح الريفي بالحسيمة الذي عرف تطورا ملحوظا في السنوات الاخيرة بل ويقدم فعلا أعمالا جيدة ملتزمة بقضايا الانسان الريفي في الريف. والإلتزام بمثل هذه القضايا هو الذي يقوّي التواصل الإجتماعي ويغنيه.. فالمسرح، تاريخياً، لم يكن سوى ذاك "التعبير الدائم عن حريّة الإنسان المخنوقة إزاء التقييدات والمضايقات والتناقضات التي لم يكن ممكنناً تجاوزها أو التغلّب عليها في الحياة الإجتماعية المحسوسة". وإلا ، فأين يجد المسرح مكانه ومكانته، عندما تغدو الحياة الإجتماعية بحد ذاتها مسرحاً ؟ أي عندما تطفو أشياء الحياة المخبّأة والدفينة على السطح ؟.. إنه من الواضح أن هناك بعض الاشارات والتحركات والمحاولات الجادة التي تسعى جاهدة لتقديم أعمالا جيدة وهناك عدة استجابات تؤكد أن "المسرح" في طريقه الى الشفاء من الازمات التي لاحقته وتلاحقه يتبقى أن نرى قاعات للعروض المسرحية ومعهدا للفنون المسرحية، وجمهور يمتلك الثقافة المسرحية ليكون قادراً على التواصل.. هي اوجاعنا هي احلامنا التي كبرت معنا...وما يحقّق أحلامَنا هو صمودنا وطاقتنا.. فقط. وإن قتلوا اللّيل أمام أعيننا كي لا نحلم، فأحلامنا تراودنا في النّهار أيضاً. ونحن الذين نكتفي بإرسال أحلامنا إلى الله في كل مطلعِ فجر، علينا أن نخرج ..نقاتل لنحصلَ عليها.