يسند عثمان جسده المنهك على حائط محطة "سان شارل" للقطارات في مرسيليا. يضع حقيبته الصغيرة إلى جانبه ويغمضعينيه المتعبتين جراء ليالي التشرد الباردة التي أمضاها في شوارع المدينة، لكن جميع محاولاته بأخذ قسطا من الراحة باءت بالفشل. يدخل الشاب المالي الذي بلغ مؤخرا سن ال14 إلى المحطة لعله يجد مقعدا فارغا وسط المكان المليء بالمسافرين ولافتات الترحيب إلى أوروبا. يجد أخيرا مكانا بجانب المنشورات العريضة التي غلّفت بعض جدران المحطة، وطبع عليها مقتطفات من نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. عشرات الأيام مرّت قبل أن يعلم الشاب الصغير بوجود جمعيات قادرة على مساعدته، ويقول لمهاجرنيوز "هربت من مالي بعد أن تعرضت لعنف جسدي وأجبرني أهلي على ترك المدرسة. وحين وصلت أخيرا إلى فرنسا كنت وحيدا، لم أعلم أين أذهب وماذا أفعل". وفي نهاية يناير/كانون الثاني، تمكّن الشاب من إيجاد مكان في بناء استولى عليه ناشطون وجمعيات إنسانية لإيواء المهاجرين. لم يكن عثمان القاصر الوحيد الذي توجه إلى بناء "سان جوست"، فقد تجاوز عدد القاصرين غير المصحوبين بذويهم في البناء 120 مهاجرا من أصل أكثر من 250 مهاجرا يعيشون هناك بينهم 60 طفلا. "هناك عائلات ونساء مع أطفالهم في الشارع في وضع هش للغاية، كان علينا أن نتصرف"، تقول الناشطة إيزابيل التي تشارك في إدارة المكان الذي تم الاستيلاء عليه في 18 دجنبر 2018. وتعد مرسيليا أبرز المدن الفرنسية التي يقيم بها القصر غير المصحوبين بذويهم، وفقا لتقرير وزارة العدل للعام 2018. المدينة معروفة باستقبالها أعدادا كبيرة من المهاجرين نظرا لموقعها الجغرافي وقربها من حدود إسبانيا وإيطاليا، ولديها شهرة واسعة بوجود جمعيات تضامن مع اللاجئين، لكن تبقى نسبة القصر فيها تحديدا مرتفعة مقارنة مع باقي المدن الفرنسية. كما يتم إرسال القصر من مدن فرنسية أخرى إلى مرسيليا وفقا لإجراء "التوزيع الوطني"، الذي من المفترض أن يوازن عدد القاصرين غير المصحوبين بذويهم في المدن الفرنسية وفقا لعدة معايير. وبشكل عام، وفقا لمصدر من إدارة المدينة، "المحافظة الأكثر تعدادا للسكان تحظى بعدد أكبر من القصر، لكن المشكلة أن الكثير من الصغار الذين يتم إرسالهم إلى إقليم بوش دو رون كانوا يعيشون ضمن ظروف أفضل في المدن الأصغر. هنا لا نستطيع تأمين نفس ظروف الاستقبال نظرا للعدد الفائض لدينا". وكان بناء "سان جوست" المكون من ثلاث طوابق يتبع لأبرشية المدينة، وبقي فارغا لسنوات عديدة. وتقول إيزابيل "كان هذا المكان المثالي بالنسبة لنا لإيواء المهاجرين، حيث يوجد فيه أكثر من 60 غرفة تضم معظمها حمامات خاص". لكن هذا الحل لن يدوم طويلا، فالبناء تم بيعه إلى معهد تدريب ويتوجب على القاطنين فيه إخلاءه خلال شهرين. وتوضح إيزابيل "يحتاج ملاك المبنى الجدد للقيام بأعمال صيانة، وطلبوا منا المغادرة بحلول 31 مارس، لكننا في مفاوضات مفتوحة معهم لإيجاد حل والضغط على المسؤولين في مدينة مرسيليا لإيجاد وسيلة شرعية تضمن حقوق هؤلاء الأشخاص". على كرسيها المتحرك، تخرج إناس ذات الثمانية أعوام من غرفتها برفقة والدتها ناديا. وصلت الأم البالغة من العمر 50 عاما برفقة ابنتها إلى فرنسا منذ نحو عامين، وتشرح لمهاجرنيوز "تركت زوجي وابنتي الثانية في الجزائر وجئت إلى هنا لمعالجة ابنتي التي تعاني من مرض متعلق بالنمو. ورغم وضعها الصعب، لم أستطع الحصول على سكن وصرفت كل ما أملك من مال. كنت أعيش في قلق دائم وأتصل باستمرار بخدمة طوارئ السكن 115، وأنا أعلم أن السكن في سان جوست هو حل مؤقت. أشعر بالخوف ولا أريد العودة إلى حياة التشرد". وإلى جانب المدخل الرئيسي للمركز تصطف عربات الأطفال. وشهد المركز منذ افتتاحه 16 ولادة. وينحدر معظم المهاجرين من دول المغرب وساحل العاج وجزر القمر ونيجيريا وغينيا وصربيا وألبانيا. كادي، طالبة لجوء من ساحل العاج لا يتجاوز عمرها ال23 عاما، وصلت إلى فرنسا في تموز/يوليو 2017 بعد أن قررت الهرب من زوجها التي أجبرت على الزواج منه. وتقول لمهاجرنيوز "كنت حبلى عندما وصلت إلى فرنسا، وأمضيت ليالي الحمل مشردة في شوارع مرسيليا. تم رفض طلب لجوئي للمرة الأولى ولم أحصل على جواب إيجابي من قبل محكمة النقض أيضا. ومن ثم أخبروني عن برنامج العودة الطوعية وإعطائي 1000 يورو من أجل ذلك، لكني لا أستطيع العودة إلى بلدي لأني تعرضت لتهديدات بعد هروبي من زوجي السابق". في نهاية الممر توجد "الغرفة الباردة"، حيث النافذة تبقى مفتوحة لدخول الهواء البارد. وكما يشير اسمها، تم تخصيصها لتخزين الخضار والمواد الغذائية. وفي المطبخ، يتعاون القاطنون على تحضير الطعام. وتشير إيزابيل إلى أنهم ينظمون وجبات طعام مشتركة بشكل دائم. وبينما يبدو أحد المتطوعين في البناء منهمكا بتصليح أحد المقاعد الخشبية، يقف عثمان إلى جانب برنامج النشاطات المعلق على الحائط يبحث عن موعد درس اللغة الفرنسية الذي ينظمه متطوعون بشكل أسبوعي، إضافة إلى ورشات فنية ودورات رسم. ويقول عثمان "كل ما أتمناه الآن هو التمكن من الذهاب إلى المدرسة. أنا متحمس جدا لأني بفضل الدروس هنا سأبدأ المدرسة ابتداء من مارس". *المهاجر نيوز