من وسط ركام التخلف و الجهل و الفقر المدقع ، خرجت البرازيل تلك الدولة القابعة في أدغال غابات الأمازون ، لتصنع لنفسها مكانا بين كبريات الاقتصادات العالمية وتقدم تجربة فريدة وملهمة لشعوب العالم بفضل الرئيس البرازيلي داس يلفا أو كما يطلق عليه شعبه “نصير المحرومين”. فبعد سنوات جاف عرفها الاقتصاد البرازيلي الجريح ، وبعد أن تقاذفته الأزمات و المشاكل ، وصل إلى سدة الحكم في البرازيل لولا دا سيلفا وهو شاب برازيلي فقير ينحدر من أزقة وشوارع سانباولو ، عاش فترة طويلة من الكفاح في أروقة السياسة ودهاليز النقابات العمالية. كان حملا ثقيلا ذالك الذي حمل الرئيس الجديد ، فالبرازيل غارقة في الديون حد الإفلاس وشروط صندوق النقد الدولي مجحفة في حق البرازيل من أجل الحصول على قروض جديدة. ولما أمسك بالحكم الكل خاف منه رجال الأعمال قالوا هذا سوف يأخذ أموالنا ويؤممنا، والفقراء قالوا هذا سوف يسرق كي يعوض الحرمان.. لكنه لم يفعل ذلك… وإنما؟ قال كلمته الشهيرة «التقشف ليس أن أفقر الجميع»، بل هو أن الدولة تستغني عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء.. وقال كلمته الشهيرة (لم ينجح أبداً صندوق النقد إلا في تدمير البلدان)… واعتمد على أهل بلده.. وضع بنداً في الموازنة العامة للدولة اسمه (الإعانات الاجتماعية المباشرة) وقيمته 0.5 % من الناتج القومي للدولة.. يصرف بصورة رواتب مالية مباشرة للأسر الفقيرة.. يعنى بدل الدعم العيني بدعم نقدي.. وهذا الدعم كان يدفع ل11 مليون أسرة تشمل 64 مليون برازيلي… هذا الدعم كان 735 دولارًا.. طبعاً السؤال من أين والبرازيل مفلسة؟! لأنه رفع الضرائب على الكل (ما عدا المدعومين ببرنامج الإعانات).. رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية من الشعب.. وهل وافق رجال الأعمال الذين كانوا سعداء لأنه منحهم تسهيلات كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم، ومنح الأراضي مجاناً وتسهيل التراخيص وإعطاء قروض بفوائد صغيرة لمساعدتهم في فتح أسواق جديدة. بعد 3 سنين فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي وجاء معاهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل.. في 4 سنوات سدد كل مديونية صندوق النقد.. بل إن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار أثناء الأزمة العالمية في 2008 بعد 5 سنين فقط من حكم لولا دا سيلفا.. (هو نفس الصندوق الذي كان يريد أن يشهر إفلاس البرازيل في 2002 ورفض إقراضها لتسدد فوائد القروض). بفضل تركيز دا سيلفا على 4 أمور: الصناعة، والتعدين، والزراعة، وطبعاً التعليم.. البرازيل وصلت لسادس أغنى دولة في العالم في آخر عام لحكمه.. وأصبحت تصنع الطائرات (أسطول طائرات الإمبريار برازيلية الصنع). لقد استطاع لولا دا سيلفا تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية وتجول من مستدين من صندوق النقد الدولي إلى دائن الأمر الذي جعله يصرح للصحافة البرازيلية قائلا : “اننا انتقلنا لكي يستمع إلينا. إننا نقول لصندوق النقد الدولي ما يجب فعله وليس العكس كما كان يحدث دائما”. وأضاف لولا أنه خلال زمن طويل فقد كانت البلاد مدانة لصندوق النقد الدولي وكانت تنصاع لأوامره دائما مثل “الطفل المطيع”. وأكد الرئيس البرازيلي على استقلالية بلاده عن ضغوط صندوق النقد قائلا : “الآن ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية وفي ظل أزمة اقتصادية خطيرة فان البرازيل لا تطلب دعما ماليا ولكنها تقرض صندوق النقد قرضا ب10 مليارات دولار”. هكذا وعبر الاصلاحات الاقتصادية لدا سيلفا أصبحت البرازيل أكبر دولة اقتصادية في أمريكا الجنوبية والعاشرة عالميا، وانتشلت برامجه الاجتماعية نحو 30 مليون برازيلي من براثن الفقر وختم حكمه بتنظيم أكبر عملية اكتتاب في العالم رفعت رأس مال شركة بتروبراس النفطية البرازيلية بأكثر من 66 مليار دولار. وعلى مستوى السياسة الخارجية؛ منح دا سيلفا لبلاده حضورا دوليا كبيرا ومؤثرا بشكل غير مسبوق حتى أصبحت “قوة عالمية”، ووطد روابطها مع العالم فاستطاعت في أعوام إنشاء شبكة دبلوماسية جمعت المتناقضات وشملت جميع أنحاء العالم. وبسبب سفرياته الكثيرة داخل البلاد وخارجها سمته الصحافة البرازيلية “أير لولا”. اهتم بمنطقة الشرق الأوسط التي زار فيها عدة بلدان عربية خلال دجنبر الأول 2003، ووقع معها عشرات الاتفاقيات الاقتصادية، وعقد صلات قوية بكل من إيران التي توسط في قضية برنامجها النووي، وإسرائيل التي انتقد عدوانها على الفلسطينيين. وفي عهده نالت البرازيل حق تنظيم كأس العالم التي استضافتها 2014. هكذا أستطاع دا سيلفا أن يعيد للبرازيل مكانتها من جديد فقد حققت سياساته الإصلاحية الجديدة نجاحات أبهرت العالم وأخرجت البرازيل من إحدى أسوء الأزمات التي عرفتها عبر التاريخ ، لقد كان الشعب محبطا لدرجة كبيرة و يشعر بالانكسار و الهزيمة بسبب ما آلت إليه الظروف في البلد ، لكن تجارب الأمم عظيمة وفكرة البناء والنهوض قد تتعثر ، وتصطدم بالواقع و قد تهتز لكنها أبدا لا تموت.