والواقع أن تاريخ الأسرة العزفية بمدينة سبتة هو تاريخ يبين لنا وضعية سياسية فريدة من نوعها في تاريخ المغرب، فريدة لأن الأسرة العزفية نجحت في تأسيس ما يسمى، ” المدينة – الدولة ” أو الإمارة – الدولة”، أو ما شابه هذا من أوصاف. نجد من الباحثين من يطلق على الأسرة العزفية وحكم هذه الأسرة صفة “الإمارة”، ونجد من يطلق عليها صفة الدولة، ونجد من يطلق عليها صفات وألقاب أخرى. الكتاب الإسبان يسمون الدولة العزفية “أميرية سبتة”، ولكن هذه الأوصاف كلها ما تزال في حاجة إلى تدقيق أبي العباس أحمد العزفي، هو فقيه كبير، قمة من قمم العلم بالمغرب التي أنتجتها مدينة سبتة المغربية، ابنه أبو القاسم محمد العزفي هو أحد كبار رجالات المغرب في القرن السابع الهجري الثالث عشر للميلاد مؤسس ما سماه بعض المؤرخين المحدثين “أسرة حاكمة من أمراء – الولاة”، تولت حكم الإمارة العزفية بسبتة. ومثل العزفيون النخبة المحلية ذات الارتباطات الروحية والعائلية مع البيوتات النافذة المغرب والأندلس، فقد تصاهرت مع أسلاف ابن خلدون، وهم أصهار بني الرنداحي قواد البحر الأقوياء، وأصهار بني عبد المهيمن الذين تولوا الكتابة عن سلاطين وخلفاء المغرب، وهم فوق هذا وذاك أصهار الشيخ أحمد القنجانري، الصوفي الكبير الذي كانت له مكانة خاصة في البلاط الموحدي. وصل أبو القاسم محمد العزفي إلى السلطة سنة 647 ه/ 1248 م وكان عمره يناهز الأربعين سنة، وحظي بسمعة علمية خولت له أن يحمل لقب ” الفقيه المعظم” الذي حرص المؤرخون على وصفه به، لم يكتف أبو القاسم العزفي بحكم مدينة سبتة، وإنما دفعته ظروف – لا مجال للدخول في تفاصيلها في هذا المقام – ليوسع من ميدان حكمه وسيطرته ليضم مدينة طنجة إلى إمارته، “وولى عليها من قبله، وأشرك الملأ من أشرافها في الشورى”، وضم كذلك مدينة أصيلا، وامتد نفوذ العزفين حتى شمل قبائل غمارة، أي أنها لم تكن مقتصرة على سبتة وإنما ضمت ما يقرب الآن جهة طنجة – تطوان. لقد أدار أبو القاسم العزفي شؤون سبتة لما يربو عن الثلاثين سنة متتالية، وتوك السلط لأبنائه بعد وفاته سنة 677 ه/ 1279م، وحافظوا عليها من دون انقطاع تقريبا حتى سنة 1320م. وخلال مدة هذا الحكم، المطبوع باستقرار استثنائي، تمتعت المدينة باستقلال ذاتي كبير، دون أن تصل إلى استقلال رسمي تام، ورغم الاضطرابات والفتن التي كانت تجتاح المنطقة، عرفت المدينة كيف تحافظ على نشاط اقتصادي كبير. وجعل بنو العزفي لمدينة سبتة صيتا دوليا، وبوؤها درجة عالية من القوة السياسية والاقتصادية حتى أن خايمي الأولى، صاحب أرغون رأى من الحكمة أن يبرم معاهدة سلم وهدنة مع صاحب سبتة Senyor (فبراير 1269). وكانت هذه المعاهدة – على حد علمنا. أول اتفاق يمتد بين تاج أرغون وبين سلطة مغربية. بعد ذلك بسنوات، انتهجت أراغون ساسة الحذر مع سبتة، وقامت عام 194 باعتماد سفراء لها لدى أبي حاتم العزفي، وبتزويد مبعوثيها القاصدين تلمسان سنة 1319م بأوراق اعتماد يمكن تقديمها إلى صاحب سبتة في حالة وقوعهم في أيدي غزاة البحر السبتيين، واكتسبت سبتة العزفية مكانة دوليا. ففي سنة 1267م، اتخذت جمهورية جنوة الإيطالية قرارا برفع درجة قنصلها في سبتة إلى ما يمكن وصفه بقنصل عام، تخضع له قنصلياتها في الأندلس وبلاد المغرب.
سبتة العالمة ومدارسها في العلوم الشرعية الكاتب: الدكتور محمد الشريف