إن أعمال الدكتور حسن الوراكلي العلمية “تقدم نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى من يقدمها”، وذلك لما انطوت عليه من نية صادقة، وقلم نزيه سيال، وكلمات بيانية، تلج القلوب بدون استئذان، وحرقة على حال الأمة الإسلامية، ودفاع عن هويتها ولغتها الحضارية، ووضع اللبنات الهادية للعودة بها إلى سالف عهدها من حيث الالتزام الديني والخلقي والتربوي بتعاليم الإسلام ب”علم بان وفكر هاد” حسب تعبير فضيلته. كل هذا نلمسه في كتبه على تنوع مشاربها وتخصصاتها، فبالرغم من أنه رحمه الله اختص بالدراسات الأدبية الأندلسية، إلا أنه كانت له مشاركات وازنة في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، ويتضح ذلك جليا أولا في سلوكه مسلك العالم القدوة الذي يقدم الإسلام الحضاري بعمله قبل علمه، وهي القيمة التي أكد عليها في مجمل كتبه الدعوية، يقول رحمه الله:” بهذا وذاك كان هذا الدين دينا حضاريا بأوسع المعاني البناءة الإيجابية للحضارة، تلك التي تمتاح من قيم الاهتداء وتقبس من مثل الاستواء التي دعت إليها وكرستها رسالة الإسلام الخاتمة كما بلورها الأصلان الكتاب والسنة”[1]، ويقول أيضا:” ولا شك أن ما دعا إليه الإسلام وحض عليه من أخلاقيات الاستواء وآداب الاهتداء في الكتاب والسنة مما يطالعنا في أبهى صورة في سيرة الرحمة المهداة والنعمة المزجاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “[2] ولقد كان رحمه الله ذا قلم سيال يبذل منه في سبيل نشر دعوة الإسلام ما شاء الله، فقد كان يرى أن البذل والعطاء مما منح الله تعالى لا ينحصر في المادة فقط، “بل إن كان من أهل العلم تجرد لبثه ونشره يبصر به جماعة المسلمين في دينهم ويغرس في نفوسهم مثله وقيمه، ويعلمهم كيف أن هذه القيم والمثل ليست مجرد أقوال وإنما نفعها لهم ولأمتهم ومجتمعهم في ترجمتها إلى سلوك وفعل اقتداء برسولهم صلى الله عليه وسلم حين كان يترجم قيم القرآن ومثله إلى أفعال وأعمال”[3]. بل لم تسلم كتاباته عامة والأدبية منها خاصة، من وشي الأسلوب الأدبي الراقي – وهو عضو رابطة الأدب الاسلامي- فهو كثير الاقتباس من أسلوب القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تتبعها غير واحد من الباحثين نمثل له بدراسة بعنوان: “أسلوب الاقتباس في الريح والجذوة للدكتور حسن الوراكلي” أعدها د.محمد عبد العظيم بنعزوز نشرت على صفحات صحيفة النور،ع-447- 448/2006 عرض فيها لمجموعة من المفردات التي اقتبسها المؤلف من النصوص الدينية وعرضها عرضا شيقا. وهكذا كانت سيرته العلمية التي قضى فيها أكثر عمره في مجال التربية والتعليم بالمغرب وخارجه حافلة ومحمودة من الجميع، وأثنى عليه الكبار والصغار طلبة وزملاء، واحتفوا به حيا وميتا رحمه الله تعالى، وما هذا إلا لأنه كان يعتبر الوطن “هو كل أرض، أيا كان موقعها، وأيا كان جنس أهلها ولسانهم، يطبق فيها الإسلام شرعة ومنهاجا”[4] وكان ذا غيرة على التعليم والتربية، ويرى أن المنهج القائم على الفصل بين التعليم التقليدي والعصري في البلاد الإسلامية كانت مقاصده كثيرة” إلا أن أهمها كان هو حصر الإسلام، وهو الدين عند الله، ليس يعترف بالانشطار بين ما هو ديني وما هو دنيوي في دائرة طقوس بلا فاعلية آنية، ولا حضور إيجابي يحسم الإشكاليات ويملي المواقف ويحدد المسؤوليات”[5] ووفقا للمعطيات السلبية التي أفرزتها المناهج التعليمية الغربية المعتمدة في البلاد الإسلامية، كان يرى أنها لقمينة بأن تحملنا، ونحن بصدد البحث عن هويتنا الحضارية، على الدعوة إلى وجوب إحداث تغييرات جذرية وجوهرية في مناهج التعليم ومقرراته في بلادنا الإسلامية بما يجعلها تستجيب لحاجياتنا، وتلبي تطلعاتنا في التغيير والبناء”[6] يرى الدكتور حسن الوراكلي أن الإسلام بلور من خلال القرآن والسنة تعاليم ومبادئ ومثلا وقيما تتحدد بها صورته على المستويين الرؤية والفعل. أما من حيث المستوى الأول فيمكن القول بأن أهم ما يميز هذه الرؤية أنها شاملة كلية للكون والحياة والإنسان ليس لأي دين ولاية إيديولوجية وولاية فلسفة. وأما على مستوى الممارسة فقد ترجم رسول الله ص ومعه الذين اتبعوه مقاصد هذا الدين الكبرى كما بلورها رؤيته الشاملة الكلية إلى سلوك وفعل أكدا معا بكامل الجلاء والوضوح أن رسالة هذا الدين رسالة تغيير واستشراف… مرد التباين بين الثقافات إلى التكوين العقدي والفكري والنفسي للأمة أو ما اصطلح على تسميته بالمركز الحضاري للأمة وهو ما تبلوره هويتها الثقافية ومن أهم مكوناتها التراث وإن أجدى الأساليب في استلهام هذا التراث يتمثل في تحويله إلى ثقافة فاعلة في الفكر والسلوك لدى أصحابها وبعبارة أخرى صهر روح التراث في حياتهم الفردية والجماعية الخاصة والعامة بما يعدون به ذوي هوية مستقبلية متميزة من سواها…. إن الخطاب التربوي الإسلامي هو رؤية تستمد مكوناتها من ثقافة القرآن والسنة وتتميز بخصيصتين ذواتي خطر وشأن هما الشمولية والواقعية أما الشمولية فلأنها تستوعب جوانب الشخصية الإنسانية كلها روحية ومادية وعقلية ووجدانية. وأما الواقعية فلأنها تحتكم إلى العمل ومعطياته وآثاره، وتقيس نجاح الشخصية أو فشلها من خلاله. والخطاب التربوي بهذا المفهوم يتسع ليهيمن ويوجه مجموع المواد التعليمية والمقررات الدراسية أيا كانت طبيعتها فيجعله في اتساق وتجاوب مع قيم الاسلام ومثله[7]. وقد كان لمجاورته الحرم المكي لفترة طويلة من القرن الماضي الأثر الطيب وهمزة الوصل التاريخية بين ماضي وحاضر العلاقات العلمية بين مغرب العالم الإسلامي ومشرقه وهو الموضوع الذي افرده صديقي الباحث الأستاذ منتصر الخطيب في مقال له بعنوان أديب تطوان ومجاور الحرم المكي الدكتور حسن الوراكلي نشر من قبل. وقد خلف رحمه الله لآلئ وكنوز دعوية وتربوية، ومقالات في مختلف المجلات ذات الصلة، من مثل كتابه “حتى نبرأ من الكساح” و”كالنيازك البراقة” و”المسلمون وأسئلة الهوية” و”فيوض” و”الإسلام والغرب” و ثقافة الحوار الحضاري عند المسلمين و”المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي” و “التيسير في الحج” وغيرها…. وهذا المقال الأخير تضمن جملة من توجيهاته الدعوية والتربوية في منهج التيسير الفقهي في الإسلام نقتطف منه هذه الاقتباسات دليلا على نبوغه في هذا المجال يقول في ذلك “إن عبادة الحج بحكم ما يتقدمها من حركة موصولة تبدأ برحلة القدوم..وتنتهي برحلة الصدر.. وبحكم ما يتخلل ما بين الرحلتين إبان أداء العبادة بخاصة من ضروب الحركة في الطواف والسعي وبين مشاعر منى وعرفة ومزدلفة.. تميزت عن غيرها من العبادات بمزيد مشقة.. فإنها في غير حال تبلغ حدا يستدعي جلب تيسير ورفع حرج في أدائها وتلك مزية عظمى لهذه العبادة.. ثم يقول “وقد أجمع علماء المذاهب الفقهية على أن هذه القواعد وعلى رأسها قاعدة المشقة تجلب التيسير هي أساس استخلاص أحكام التيسير ورفع الحرج الممثلة في الرخص الشرعية المتعلقة بالعبادات… و الأمر في ذلك ليس مقصورا – كما ألمحنا- على مجال من العبادات دون آخر ولا على مجال من المعاملات دون آخر بل إنه يشمل كل مجال لا تتحقق فيه الاستطاعة عند الممارس لفعل عبادة أو إجراء معاملة”. وعلى سبيل الختم فإن البعد الدعوي ثابت من ثوابت تفكير الدكتور حسن الوراكلي رحمه الله، وتجده حاضرا بجلاء في كتبه ودراساته المتصلة بقضايا الإسلام والمسلمين قديما وحديثا. وتجده كامنا في كتاباته الإبداعية عبر انتصاره لقيم الجمال والجلال، واشتغاله على مواضيع وثيقة الصلة بقيم الحق والعدل وكرامة الإنسان، واستماتته في تحصين قيم الاعتزاز بالإنتماء الحضاري والتشبث بالهوية الروحية لدى الإنسان المسلم التي تستمد نورها من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية. وقد اعتمد رحمه الله في تبليغ خطابه الدعوي منهجا وأسلوبا استمدهما من منبع الكتاب العزيز الذي أنزله الحق سبحانه شفاء للناس كافة، ونورا يهدي إلى التي هي أقوم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. [1] أحاديث من البلد الأمين، لفضيلة الأستاذ الجليل الدكتور حسن الوراكلي رحمه الله، تقديم فضيلة الأستاذ الدكتور محمد المعلمي، جمع وإعداد الدكتور براء الوراكلي، مطبوعات ندوة زمزم الجمعية(26)، ص:9 [2] نفس المصدر: ص:25 [3] أحاديث البلد الأمين، ص: 32 [4] نفسه، ص: 65 [5] الخطاب التربوي الإسلامي (المرتكزات والغايات)، أ د حسن الوراكلي، مجلة أصول الدين، الجامعة الأسمرية الإسلامية، ليبيا، العدد الثاني، مايو 2017م، ص: 301. [6] نفسه، ص: 301 [7] حوار أجرته معه جريدة العالم الإسلامي،رابطة العالم الإسلامي-عدد 1438/17 شعبان 1416ه.