الى حدود يومنا هذا لازالت ساكنة الجهة المستقلة "لمورسيا" و"بلنسية" باسبانيا، يكنون احتراما واعجابا منقطع النظير، لأحد أكثر الملوك غموضا وسحرا في تاريخ منطقتهم، ويتعلق الأمر "بالملك الذئب"، الذي استطاع بشخصيته المتفردة، أن يبصم على وقائع وأحداث كبيرة وقعت بأندلس القرون الوسطى ،خلدت اسمه على مر العصور. "الملك الذئب" هي التسمية التي اشتهر بها المدعو الأمير "محمد ابن مردنيس" حيث تشير المصادر التاريخية الاسبانية، أنه يتحدر من عائلة مسيحية شهيرة بمنطقة "مورسية" اعتنقت الاسلام في عهد دولة المرابطين، وأنه وبمجرد بلوغه سن العشرين من عمره، أصبح حاكما على مدينة "فراخا". وبفضل الموقع الاستراتيجي لمدينة "فراخا"، التي كانت توجد على خطوط التماس بين ملوك الطوائف المسلمين بكل من "سرقسطة"، و"لييدا"، ومملكة "أراغون" المسيحية بجهة الشمال، فقد استطاع بنباهته أن يلعب دور الوسيط، لحل العديد من الخلافات، ونزع فتيل بعض الحروب التي كانت في تلك الحقبة،وقودها ،العقيدة الدوغمائية ،والايديولوجية الدينية المتعصبة. وفي هذا الصدد تشير المصادر التاريخية أن "الملك الذئب" كان محل ثقة ملوك المسلمين بكل من غرناطة وقرطبة وكذا الملوك المسيحيين، لأنه انصهر بقوة داخل الثقافتين بشكل لامثيل له، فأصبحوا يستشيرونه في العديد من القضايا الشائكة، التي تهم الرعايا المسلمين والمسيحيين، واليهود، على حد السواء. "كان مسلما من عائلة كل أفرادها يمارسون الشعائر الدينية الاسلامية، لكن في نفس الوقت كان يتماهى مع العادات والتقاليد المسيحية بشكل كبير، حيث كان يشرب الخمر دون أي مركب نقص، ويتكلم اللغة "القشتالية"، بطلاقة، وكان بقصره المهيب الواقع على هضبة تطل على سهول مورسية ،يستقبل الملوك المسلمين والمسيحيين، وزعماء ذلك العصر، خاصة أثناء فصل الصيف ،للإستمتاع بخضرة الحدائق الغناء ،والساقيات التي يتدفق منها بشكل عجيب، الماء الزلال، القادم من منابع نهر وادي" سيغورا "النهر الصغير" وهو نهر شهير بمنطقة" مورسية" "، تقول المصادر الاسبانية . من جهة أخرى تشير المصادر المذكورة أنه مع أفول نجم دولة المرابطين التي دخلت في صراع دموي طاحن مع دولة الموحدين الصاعدة، قام "الملك الذئب"ببسط نفوذه على "بلنسية "وألمرية وخايين "، وأعلن نفسه أميرا مسلما على مناطق شاسعة بالأندلس، مع اعترافه بالسلطة الرمزية لخليفة المسلمين بدمشق، وهي مبادرة ذكية منه، لإعطاء الأقاليم الاسلامية الأندلسية نوعا من الاستقلال الذاتي في ذلك العصر، حتى تتمكن من العيش في وفاق مع الممالك المسيحية . لكن للأسف الشديد، كان للدولة الموحدية الصاعدة والتي أحرق علماؤها فيما بعض كتب الفيلسوف "ابن ارشد" رأي آخر، فقاموا بتكفير "الملك الذئب" واعتبروا سلوكه مروق وخروج عن الدين والملة والجماعة، وبناء عليه شنوا عليه هجمات عنيفة ومتكررة من أجل تقويض دعائم حكمه. واجه "الملك الذئب"، وحشية جيش الموحدين القادمين من جبال الأطلس المغربي برباطة جأش، وتحصن داخل أسوار "مرسية" لكنه أصيب بإحباط كبير حين تم تأليب أسرته الصغيرة عليه خاصة زوجته، والذين تبرأوا منه لأنه يمارس تسامحا كبيرا مع أصحاب الديانات المختلفة، وخلال وقت احتضاره تمكنت أسرته من توقيع اتفاق مع الدولة الموحدية، التي أخضعت جميع أقاليم "الملك الذئب"، لأسلوب الادارة المباشرة.
فعلا ربح الموحدون المعركة ضد "الملك الذئب"، لكنهم خسروا حرب التسامح والاعتراف بالآخر، وفض النزاعات بالتي هي أحسن، أن تعصب الموحدين جوبه بتعصب آخر من طرف الملوك "الكاثوليك"، الذين أيقنوا على أن وحشية وهمجية "المورو" في اشارة للدولة الموحدية، لاسبيل للتفاهم معها، سوى بلغة الحديد والنار، والطرد الأبدي، لهم ولديانتهم وسلالتهم، من جنة الأرض، أندلس الدنيا سهولا وهضابا، وكان ذلك أمرا مقضيا. بعد مرور قرون من الزمن لازال جل أبناء منطقة "مورسية" سواء المسيحيين والغير مسيحيين ،المؤمنين منهم ،وغير المؤمنين ،يتذكرون وينحنون بفخر واعتزاز لملكهم المسلم "الملك الذئب"،الذي جعل من "مورسية" أهم حاضرة للتعايش والاخاء والاعتراف بالأخر، في عهود كانت ثقافة الدين لله والوطن للجميع فكرة طوباوية، بسبب تجذر الفكر الديني الأعمى سواء بمسوحه الكاثوليكية الرهبانية، أو بعمامته الإسلامية الموحدية.