و بين مد الأصالة و جزر المعاصرة يتأرجح قارب هويته، تجذبه الرياح الغربية فيتبعها لينسلخ من جذوره، يراوده الشعور بالخوف من الثقافة الأخرى و الجزع من فقدان الهوية ... فيقرر العودة إلى حضن ثقافته العبقة بنسمات أعراف لم يصل صيتها إلى غير مكان. هاته النسمات التي فقدت جودتها و تجردت من أصالتها فغدت مختلطة بعطور دخيلة، غدت عديمة العليل و مغشوشة الأريج. جلس في قاربه متأملاً في حاله تائهاً، هائماً بين أمواج الغرب العاتية المسيطرة التي تشد نظره وتضعف قواه بجبروتها و تأسره بجمالها الفتان... بحرية أفكارها و دقة توقيت حركاتها... وبين أمواج أصوله التي تطغى عليها بساطة الأزقة و عراقة الطرقات ... أمواج قليلة الهيجان و ضعيفة التأثير... لكن تحمل بين ثناياها قطرات العروبة و عنبر شهامتها، تنطوي تحت لواءها طمأنينة القلوب و حنان الأمومة، تغريه بدفئ اللمات و نفحات العادات، اختلطت السبل أمامه و احتار أي طريق يسلك فأخذ يبحر في أعالي الحياة و يغوص في أعماق أيامها ... صار يقتبس من هنا و هناك ليُحمّل مركبه بزاد المتعة الشاهقة تارة و المحبة الصادقة تارة أخرى. قضى حياته محاولاً السيطرة على مسار قارب الهوية ساعياُ إيصاله إلى بر الأمان، مرامه النجاة بأقل الخسائر فالوجهة مجهولة و الطريق محفوف بالصعاب شرع يجدف بكل قوته. تلك القوة المقترنة بازدواجية هوية نتج عنها اللاهوية . حاول جاهداً... بيد أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ارتج القارب و فُقِدت السيطرة. كيف لا؟ و سعته تفوق الحمولة الساكنة فوق ظهره ...
فما أصعب فقدان الهوية و ما أعسر الفشل في المحافظة عليها وأنت في حضن وطنك ووطنها.