بتواز مع الندوة التي احتضنها مقر مجلس المستشارين، حول موضوع "السياسة المغربية في ميدان الهجرة واللجوء.. فرص وتحديات"، أعلن بمقر الأممالمتحدة، يوم الجمعة الماضي، عن توصل الجمعية العامة للمنتظم الأممي إلى اتفاق بشأن وثيقة "الميثاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة". الحدثان يندرجان في أفق قمة أممية كبيرة تستقبلها مدينة مراكش، خلال شهر دجنبر القادم، وتهم هي الأخرى موضوع الهجرة، حيث ستتميز فعالياتها باعتماد الميثاق العالمي الجديد حول الهجرة الآمنة والمنظمة، وتعزيز وتدعيم التعاون الدولي والحكامة الجيدة في مجال الهجرة واللجوء. والأكيد أن قضايا الهجرة، بكل تشعباتها، ليست بالشيء الجديد بالنسبة للمغرب ولسياسته واجتهاده في الموضوع، وهذا ما تجلى من خلال ندوة الرباط، وفي أروقة الأممالمتحدة بنيويورك، حيث أعلن الممثل الدائم للمغرب عن ترحيب المملكة بالتوافق الدولي الحاصل حول الميثاق العالمي للهجرة، مضيفا أن ذلك يشكل "لحظة تاريخية، لأن يوم التوصل إلى التوافق حول صياغة هذه الوثيقة سيظل يوما خالدا ليس فقط في سجلات الأممالمتحدة، ولكن أيضا وبشكل خاص في ذاكرة 244 مليون مهاجر في جميع أنحاء العالم". أما في ندوة مجلس المستشارين، المنظمة بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة (كونراد) والجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فقد أكد المشاركون على خلق فضاء إقليمي لتدبير دينامية الهجرة، ودعم التعاون والتنسيق بين البلدان المتوسطية عموما والمغاربية على وجه الخصوص، كما أكدوا على ضرورة انخراط المنتظم الدولي في التعاطي مع ظاهرة الهجرة على قاعدة التضامن الدولي والحلول الجماعية… من خلال هذه المواقف، وباستحضار اللقاء الدولي الكبير بمراكش، يتأكد مرة أخرى أن المغرب ليس فقط بالبلد الملم بإشكاليات الهجرة والمهاجرين، ولكنه البلد الفاعل والمتحرك على الدوام في الميدان، وعلى كل المستويات، وعلى أساس سياسة واضحة ومبدئية من أجل حقوق المهاجرين وأنسنة استراتيجية التعاطي مع التطورات والمستجدات التي طرأت على موضوع الهجرة، وقد يكون المثل الأول من اهتمامه بأفراد جالياته في المهجر (أزيد من 3 ملايين في أوروبا وحدها)، التي يحرص على الاهتمام بمشاكلها، والتي أفرد لها أكثر من مؤسسة حكومية وإدارية واجتماعية وثقافية، كما تحرص المملكة، بكل مؤسساتها على التواصل مع مغاربة العالم، وخاصة من خلال تخليد اليوم الوطني للمهاجر في (10 غشت)، حيث يجري تنظيم عدد من الأنشطة التواصلية احتفاء بأفراد الجالية. أما المثل الثاني، فيمكن أخذه من مبادرة المغرب المتميزة في تسوية وضعية المهاجرين الأفارقة وفق معايير تراعي ظروفهم الإنسانية وتحفظ كرامتهم، حيث إن الذين تمت تسوية وضعيتهم القانونية يتمتعون بكل الحقوق والاستفادة من برامج التأهيل والإدماج وحق التعليم لأبنائهم، وكون المغرب لم يعد فقط ممرا للهجرة أو مصدرا لها، فإنه احتل موقعا رئيسيا كمحاور جدي وموضوعي، على مختلف المستويات الجهوية والدولية، وفي كل ما يهم معالجة إشكاليات الهجرة التي أصبحت تستلزم مجهودات دولية مشتركة وحلولا جماعية مبتكرة، وهذا ما يظهر من خلال العديد من اللقاءات الإقليمية والدولية التي نظمها المغرب، بهذا الخصوص، أو استضاف فعالياتها، ولاسيما مع بلدان المجموعة الأوروبية أو المتوسطية، وأيضا في إطار مؤتمرات الأورو-إفريقية حول الهجرة والتنمية. أما على صعيد القارة الإفريقية، وبالذات داخل مؤسسات الاتحاد الإفريقي، فإن المغرب، وبفضل الرؤية الشجاعة لجلالة الملك، يحتل اليوم موقع الريادة في التصدي لمشكل الهجرة، وفي الوقوف على حقائق المشكل وخلفياته التاريخية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي في طرح المسألة بكل أبعادها ومع المقترحات العملية الممكن الأخذ بها وتفعيلها في قضية الهجرة، وبمنهجية جماعية، ولعل العودة إلى مضامين الرسالة التي وجهها جلالة الملك، بوصفه رائد الاتحاد الإفريقي في مجال الهجرة، إلى القمة الخامسة للاتحاد الإفريقي الاتحاد الأوروبي (أبيدجان نهاية نونبر الماضي)، تعطي الكثير من عناصر التوضيح بخصوص ملف الهجرة وبعض المغالطات التي تحيط به، ومن ثمة فهي تدعو إلى تصحيح بعض الأخطاء الشائعة، ومنها على سبيل المثل: * أن الهجرة الإفريقية لا تتم بين القارات، في غالب الأحيان (من أصل 5 أفارقة مهاجرين 4 منهم يبقون في إفريقيا). * أن الهجرة غير الشرعية لا تشكل النسبة الكبرى فهي تمثل فقط 20 بالمائة من الحجم الاجمالي للهجرة الدولية. * أن الهجرة لا تسبب الفقر لدول الاستقبال، حيث إن 85 بالمائة من عائدات المهاجرين تصرف داخل هذه الدول. وإلى ذلك، يضيف جلالة الملك، في نفس الرسالة، ما هو أهم من التشخيص أي ما العمل لمعالجة إشكالات الهجرة؟، وعن السؤال يجيب جلالته قائلا : إن"ساعة العمل قد دقت، وليس بإمكاننا أن نقوم بكل شيء، بل أكثر من ذلك لا يمكننا أن نحقق ذلك بمفردنا، لذا ينبغي العمل على تطوير السياسة الأوروبية في هذا المجال …". نعم، إن سؤال (ما العمل) فرض ويفرض نفسه بحدة في السنوات الأخيرة، ولاسيما مع المآسي الإنسانية وحالات الاتجار في البشر التي تضع مجموعة من المفاهيم والمواقف الدولية على المحك، كما هو الشأن بالنسبة لمفهوم العولمة والأبواب المفتوحة، ومقولة (العالم أصبح قرية)، والترسانة الحقوقية حول حرية التنقل، ومجموعة من الأوفاق الدولية المتعلقة بالهجرة… اليوم يأتي الميثاق العالمي الجديد، الذي ينتصر للنظرة السليمة لموضوع الهجرة، وهو حدث يجدر بالمغرب أن يخصه بكل ما يستحقه من اهتمام وانخراط في إجراءات وتدابير تكريسه وتفعيله، فالمغرب ظل دائما متمسكا بالنظرة السليمة والإيجابية لظاهرة الهجرة، ثم إن المغرب كرائد ومخاطب على المستوى الإفريقي، وكقطب إقليمي حيوي، وبالنظر إلى أهمية خطة العمل والمقترحات النابعة من منظور جلالة الملك للموضوع، وما يتطلبه من عمل جماعي وتقاسم للمسؤوليات… بالنظر إلى كل ذلك، فإن المغرب صار له موقع أساسي في التعاطي مع ملف الهجرة وتعزيز التعاون الدولي من أجل مقاربة الملف في كل أبعاده. ولاشك أن اختيار مدينة مراكش كمكان لتنظيم القمة الأممية، التي ستعتمد (الميثاق العالمي من أجل هجرة آمنة ومنظمة ومنتظمة) المصادق عليه بالتوافق من لدن الجمعية العامة للأمم المتحدة… لاشك أن هذا الاختيار فيه تقدير مستحق لمكانة المغرب ومواقفه وللأدوار التي يضطلع بها في هذا المجال وغيره، بل إن في ذلك أيضا تشريف للقارة الإفريقية بأكملها. ومن الناحية التنظيمية، فلا مجال لمناقشة قدرة المغرب على ضمان كل أسباب النجاح وحسن التنظيم لأشغال هذه القمة… فمراكش اليوم هي حاضرة القمم والمؤتمرات الدولية الكبيرة، فمن قمة منظمة التجارة العالمية إلى قمة المناخ… وحتى يكون لقمة مراكش ما بعده، وحتى يتم استثمار جهودها ونجاحها لفائدة الهجرة الآمنة والمنظمة، فذاك ما يتطلب توسيع الاهتمام بالموضوع على مختلف المستويات والواجهات الحكومية والمجتمعية والحزبية والإعلامية… ففي ندوة البرلمان المغربي المشار إليها كانت هناك توصيات مهمة تؤكد على بلورة إطار دولي للتعاون يقوم على شراكة استراتيجية من أجل صياغة حلول مستدامة تحقق التنمية الشاملة، وتميزت هذه الندوة بمشاركة فعاليات من المجتمع المدني، وخبراء متخصصين، وبالنقاش المجتمعي التعددي والتشاركي… وهذه (مقدمة) لما ينبغي أن يتواصل من مبادرات وتعميق للنقاش في أفق إقرار الميثاق العالمي الجديد حول الهجرة، ومن أجل تنزيل وتفعيل مقتضيات هذا الميثاق.