كل متتبع لواقع المشهد السياسي لا يمكنه إلا الإقرار بأن الصور والقراءات التي تنقل عن هذا الواقع تتفاوت وتتباين ليس فقط بين النخبة الأكاديمية من المتتبعين وبين الفاعلين في هذا الحقل وفي تنظيماته، بل إن التباين والتباعد في قراءة واقع وأفق الحياة السياسية، والحقل الحزبي بالخصوص، حاصل حتى بين الفاعلين فيه والمؤطرين لحركيته. على أن الموضوع كثيرا ما يظهر بشكل أكثر إثارة، أو بأساليب كاريكاتورية، من خلال بعض المنابر الإعلامية أو وسائل التواصل الحديثة، حيث تطلق كل النعوت والأوصاف الممكنة عبر خطاب إعلامي/ سياسي، صار هو نفسه عنصرا من عناصر إرباك المشهد السياسي وتمييع وتبخيس صورته لدى المتلقي ولدى عموم المواطنين. ففي الشهور والأيام الأخيرة توالت الحملات الممنهجة لهذا الخطاب التي تتمحور كلها حول صياغة صك (نهاية) الأحزاب وإعلان إفلاسها، مستندة في ذلك على بعض الأحداث و(التقييمات) التي يتم ترويجها و(تكييفها) في الاتجاه المفضي نحو خلق المزيد من الضبابية وإرباك الفعل السياسي المنظم، ومن الأمثلة المتعددة عن ذلك نشير إلى: *عدم تمكن المواطنين من الاطلاع على الحقائق الكاملة لبعض القضايا المتداولة، لاسيما منها تلك المتصلة بتدبير الشأن العام والمؤسسات المنتخبة والتي لا يذهب تناولها إلى مداه المنطقي… * التأويلات التي تعطى للاختلافات التي تحصل في وجهات النظر ومواقف الأحزاب السياسية حول قضايا محددة، سواء خلال الفترات الانتخابية أو غيرها من المحطات. * ضعف دور وحجم قنوات الإعلام العمومي في تنشيط الحوار السياسي والنقاش العمومي حول مختلف الإشكالات والقضايا السياسية والاجتماعية، من أجل إشراك المواطن ووضعه في الصورة وتبسيط الوقائع أمامه. * تقديم بعض الظواهر الاجتماعية أو الاحتجاجية وكأنها تشكل، في حد ذاتها، حالة غير مسبوقة، وأنها قد تكون بمثابة (البديل المنتظر) للأحزاب السياسية. علاوة على مثل هذه النماذج، فالمعروف أيضا أن الخطاب السياسي لبعض الأحزاب السياسية تميز بدوره، خلال محطات معروفة، بالوقوع في منزلقات ما كان لها إلا أن تساهم في المساس بمستوى جدية ومسؤولية الفاعل السياسي، وهو ما يخالف الحاجة إلى تحصين المشهد السياسي من السلوكات العبثية وتأهيل مختلف آلياته التنظيمية والتواصلية لتكون في مستوى الأدوار والمهام التي أناطها بها الدستور، وقادرة على الاضطلاع برفع التحديات الموضوعة أمام البلاد في مختلف الميادين. فالفصل السابع من الدستور ينص، في فقرته الأولى، على أن الأحزاب السياسية تعمل "على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية " فهذه الفقرة وحدها كافية للدلالة على الأهمية التي ينبغي أن يحاط بها الحقل السياسي وعلى حجم وطبيعة المسؤوليات والمهام المنتظر من كل الفاعلين المعنيين الاضطلاع بها، سواء كانوا في مواقع ممارسة تدبير الشأن العام، أو في صفوف المعارضة، أو في غير ذلك من المواقع والإطارات، بما فيها المؤسسات الإعلامية التي لا يتصور أن تكون خارج الحياة السياسية للبلاد أو منعزلة عن تفاعلاتها. والإعلام، أو الخطاب الإعلامي/ السياسي، بسلطته وتعدد وتطور وسائله، لا يقل عن المؤسسات السياسية الأخرى، في كل مجتمع ديمقراطي تعددي، بل إن وسائل الإعلام وحرية التعبير تشكل أحد الركائز الأساسية للممارسة الديمقراطية، ولذلك فإن ما تحقق للمغرب في هذا الميدان ليس فقط من المكتسبات التي يحق الاعتزاز بها، ولكن هي أيضا من الآليات التي تساهم اليوم في مواصلة وتعزيز البناء الديمقراطي، وهنا يجدر التذكير بما جاء في رسالة جلالة الملك، بمناسبة تخليد اليوم الوطني للإعلام (2002)، حيث قال جلالته :"لقد اعتمدت بلادنا التعددية السياسية خيارا لا رجعة فيه، ومنهاجا قارا لبناء مجتمعها الديمقراطي، ويقتضي هذا الخيار إقامة نظام ومؤسسات تخضع لقواعد الديمقراطية، كما أنه يرتكز على تأهيل المبادرة الوطنية لتمكينها من أفضل شروط الأداء والممارسة، في كافة المجالات، وفي سياق يتميز بالمنافسة الشديدة والتسابق المحموم، ويستوجب هذا الخيار كذلك إقامة دولة الحق، حيث يسود القانون، روحا ومنطوقا، ويصبح الجميع ملزمين به، حيثما كانوا، ومهما تكن حيثياتهم، وفق نفس الشروط، وذلكم هو الاختيار الذي آلينا على نفسنا المضي به بشكل لا رجعة فيه، مقدرين حق القدر ما يتطلبه إنجازه من ثمن. وهو ثمن قوامه الالتزام بالتعايش والانسجام، والحفاظ على الوحدة في ظل الاختلاف، واحترام التوازن بين حقوق الفرد والجماعة". وأن يقوم الفاعل الإعلامي بدوره المهني و يساهم، في نفس الآن، في تعزيز قيم الحرية والبناء الديمقراطي، فذاك ما يفرض التحلي بالكثير من النزاهة ومن مقتضيات أخلاقيات المهنة وأدبياتها المتعارف عليها، وإلى جانب ما هو مهني (بالمفهوم الضيق)، ينبغي الإقرار بأن الممارسة الإعلامية التي تهتم بشؤون الوطن والمواطنين تستدعي حضور روح المسؤولية الوطنية، والنزاهة والصدق والوضوح في خطابها، بما يعني: * أن قضايا الوطن والمواطنين، على المستوى الجهوي كانت أو الوطني، اقتصادية كانت أو اجتماعية أو ثقافية، لا يجوز، بأي حال من الأحوال، أن تستعمل كورقة أو ذريعة للإضرار بمصالح الأمة وثوابتها واختياراتها الوطنية. * أن ضجيج الخطاب (الإعلامي) القائم على ترويج (أنصاف الحقائق) إنما يساهم في فرملة تقدم مسار البناء الديمقراطي وتعطيل المشاركة الواعية للمواطنين. * أن الوظيفة السامية لوسائل الإعلام والتواصل هي وضع المعطيات الحقيقية أمام المواطن، وتمكينه من تملك وعي حقيقي وقناعات مستوعبة للمعطيات الموضوعية. * أن مبدأ استقلالية وتعددية وسائل الإعلام بقدر ما يشكل مكاسب ديمقراطية هامة، بقدر ما لا يبيح لأي كان استعماله في تدمير قواعد الممارسة الديمقراطية، خاصة وأن الديمقراطية لا يمكن أن تبنى إلا بالوسائل الديمقراطية التي تبدأ بالآليات التي أوجدتها الإنسانية لذلك، من هيئات ومؤسسات ودساتير وتنظيمات… أما الفاعل السياسي، فردا كان أم تنظيما، فهو بالتأكيد ليس فوق الدستور أو خارج القانون، وبالتالي فهو مسؤول عن أنشطته في إطار القانون وأمام المواطنين، كما أن المؤسسات التمثيلية والتدبيرية منظمة بمقتضيات القانون والدستور، وآليات المساءلة السياسية والإدارية والقانونية قائمة على كل المستويات، ولا أحد يمكنه نكران أهمية الخطوات التي خطاها المغرب في مجال بناء مؤسساته الحديثة. على أن كل ذلك لا يعني تجاهل حقيقة أخرى تتمثل في كون المغرب ما يزال يجابه مجموعة من التحديات والمشاكل ذات الطابع الاجتماعي والتنموي، كما أنه مطالب اليوم بمعالجة قضايا أو ملفات ذات بعد استراتيجي (التعليم ، الجهوية …)، ومن دون شك فإن هذه المشاكل لابد وأن تتولد عنها ردود فعل مشروعة. وإزاء ما قد يظهر من مفارقات، أو ضبابية في بعض الأحيان … يأتي هنا دور الفاعل السياسي الذي من مسؤولياته العمل على ترشيد وتأهيل المشهد السياسي وصيانته من نزعات الإحباط والقنوط والتيئيس، والتنبيه إلى مخاطر وعواقب خطابات الشعبوية والديماغوجية وسياسة المزايدات الفارغة التي من شأنها أن تدفع بالبلاد نحو المجهول. لذلك، وبالنظر أيضا إلى ظاهرة العزوف وردود الفعل العفوية، فإن طريق تعزيز وتقوية النسق أو النموذج السياسي الوطني يمر عبر قدرة الفعاليات المعنية، سياسية ومجتمعية وإعلامية، على الارتقاء أكثر فأكثر بدينامية المشهد السياسي وبحيوية الساحة السياسية وبالتركيز على القضايا الحقيقية واعتماد خطاب العقلانية والصراحة والوضوح.