اختتمت بجنيف في نهاية الأسبوع الفارط، أشغال الجولة الأولى من المفاوضات الجديدة لإيجاد حل سياسي واقعي ودائم وشامل وعادل بين أطراف النزاع حول الصحراء المغربية، بالاتفاق المبدئي على عقد جولة ثانية جديدة في غضون الأشهر الأولى من السنة القادمة. وإذا كانت تحليلات وتعليقات بعض الملاحظين والمتتبعين لهذه الجولة، تشير إلى فراغ حصيلتها من النتائج الإيجابية المتوقعة بالتقدم خطوات إلى الأمام في بحث سبل الحل السياسي المأمول، كما تشير إلى آمال ممكنة في الجولات التفاوضية المقبلة، دون أن تتعمق في بحث أسباب الانحباس والجمود، مكتفية بالطمأنة التي أعرب عنها السيد هورست كوهلر المبعوث الشخصي للأمين العام للمنتظم الأممي، في ارتياحه من تحقيق جمع أطراف النزاع على طاولة المباحثات والتزام الجميع مساعدته على إيجاد أرضية توافقية، ومن ثمة تفاؤله بإمكانية الوصول إلى الحل السياسي، في ظل أجواء الثقة التي يشرف على رعايتها والدفع بها إلى الأمام، فإن هذه الآمال الظاهرية والارتياحات الأولية، تظهر أن حدث الاجتماع إلى طاولة الحوار والتفاوض، هو في حد ذاته كاف لتحريك الجمود، والحال أن توقف مفاوضات الحل السياسي القديمة منذ عام 2012، كان بسبب من أن هذه الطمأنة والتفاؤل والارتياح فقط لمجرد الاجتماع واللقاء والتقاط الصور، لم تكن تحمل مضمونا جديدا ولا مقترحا ولا أرضية للنقاش، ولا ثقافة للتفاوض والأخذ والرد في إطار المنظور الأممي الجديد القاضي ببحث الحل السياسي المتفاوض عليه والمتفق بشأنه، لتمسك كل طرف بموقفه، وفي هذا الإطار لا يمكننا في واقع الحال إلا أن نستثني الموقف المغربي من هذا الجمود، إذ باعتراف الجميع بما في ذلك تقارير المنتظم الأممي ومجلس الأمن الدولي، وتصريحات أمنائه العامين ومبعوثيهم الشخصيين تظل الأرضية التي تقدم بها المغرب في مبادرته باقتراح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المتنازع حولها، هي الأرضية الوحيدة الجديدة آنذاك والمقترحة للتفاوض، والتي حملها المفاوض المغربي معه إلى طاولة المفاوضات، وسواء قبلت هذه الأرضية أو رفضت أو تم تجاهلها، فإن منطق الواقع والتاريخ يسجل للمغرب التزامه وجديته في بحث سبل حل سياسي يراعي تعقيدات مشكل النزاع حول أقاليمه الجنوبية، ويكسر الجمود والحواجز النفسية التي تمنع إعادة النظر في المواقف القديمة، ويستشرف المستقبل، ويحفظ أخلاقيا وبرحابة صدر واتساع إدراك للتحديات، ماء وجه جميع المتورطين في النزاع، ويجعل أجواء التفاوض أكثر قدرة وشجاعة على إطلاق مبادرات جديدة وجدية، كما يسجل أيضا وفي كل اجتماع تفاوضي جديد، تقدم المغرب بخطوات في سبيل تسهيل مهمة المبعوث الشخصي للأمين العام الأممي، وعلى رأسها دعم الثقة في النهج التفاوضي والحواري، ولعل الجولة الجديدة التي انخرط فيها المغرب بالتزامه الفعلي العمل على إزالة العقبات والحواجز النفسية، التي تحول دون تفاعل الطرف الآخر مع المنظور الجديد للدور الأممي في دفع أطراف النزاع لاستشراف المستقبل، تبرز سواء من المبادرة المغربية، قبيل إطلاق مسارات التفاوض، بمد اليد للطرف الجزائري للتفكير في آليات مشتركة للحوار والتشاور المباشرين حول جميع الملفات العالقة بين البلدين بدون قيد أو شرط، وهي المبادرة التي لا تزال تنتظر الرد الجزائري عليها، وتكشف للعالم مقدار الجمود الذي يخيم على المنظومة الديبلوماسية الجزائرية، وصعوبة زحزحة رواسبها القديمة التي تتهيب من أي لقاء جدي مباشر وصريح مع المغرب، أو في مبادرة منه إلى ضم منتخبين من أبناء الصحراء المغربية ممثلين لساكنة هذه الأقاليم، إلى الوفد المغربي المفاوض في مباحثات جنيف، وهي مبادرة غير مسبوقة أيضا في ضمان تمثيلية وازنة لأبناء الصحراء المغربية في المفاوضات لإسماع صوت الساكنة الذي تعبر عنه مؤسساتها الشرعية المنتخبة في استحقاقات جماعية شفافة ونزيهة وتحت رقابة المجتمع الدولي الذي حضرت أجهزته وإعلامه تحضير الحملات الانتخابية وإجراء الاقتراع، وفرز الأصوات والإعلان عن النتائج، وشهدت الإحصاءات على النسبة العالية والمرتفعة لمشاركة أبناء الأقاليم الصحراوية في هذه الاستحقاقات الانتخابية مقارنة مع باقي المشاركات في جهات وأقاليم البلاد. هذا في الوقت الذي تشهد فيه مراكز الاحتجاز بتيندوف لدى الطرف الآخر المفاوض، جمودا لا يطاق في إطلاق الحريات السياسية والعمليات الانتخابية التي تفرز بالفعل تمثيلية جديدة لأصوات المحتجزين، ولمواقفهم الفعلية من تدبير شؤونهم ومصيرهم، فالجمود الصادر هناك سواء لدى الدولة الجارة أو لدى التيار الانفصالي، لا يسمح إطلاقا بمواكبة الدينامية السياسية التي يطلق المنتظم الأممي مساراتها، ولا المكتسبات التي حققها المغرب على صعيد بناء مؤسسات ديموقراطية جهوية ومحلية قادرة على الإمساك بزمام المبادرة في هذه المفاوضات، والتعبير مؤسساتيا عن صوت المواطنين وتطلعاتهم، وهو الأمر الحاصل من التمثيلية الصحراوية ذات المصداقية الديموقراطية والمؤسساتية المشاركة في المفاوضات الأخيرة مقارنة مع التمثيلية التي تفتقد المصداقية في الوفد الانفصالي، لأنها غير مشهود لها بصدورها عن صناديق اقتراع حقيقية ولا عن مؤسسات منتخبة وغير صورية، وإن ادعت عنوة تمثيلها لأصوات الصحروايين المحتجزين في الضفة الأخرى، وخير شاهد على فقدان هذه المصداقية التمثيلية، تلك النداءات والاحتجاجات في مخيمات الاحتجاز بتيندوف، والتي تدعو إلى إشراك ممثلين عن ساكنة المخيمات في مفاوضات الحل السياسي التي يرعاها المنتظم الأممي، وتنتقد تحكم قيادة البوليساريو في مصير آلاف من ساكنة المخيمات، وفي حرياتهم وأصواتهم وطموحاتهم، وتصف هذه القيادة بأنها لا تمثل إلا نفسها ومصالحها الذاتية في أية مفاوضات حول نزاع الصحراء ( ينظر في ذلك النداء الأخير لتيار خط الشهيد بمخيمات تيندوف، والموجه على هامش مفاوضات جنيف، إلى المبعوث الأممي). ماذا بإمكان الطرف الآخر المعادي للوحدة الترابية للمغرب أن يقدمه لتحريك مسلسل التفاوض من جهته، وهو مكبل بقيود أخلاقية وسياسية ومؤسساتية وتاريخية، لا تسمح له بالتفاعل مع تطورات الأحداث إقليميا وجهويا ودوليا، ولا تتيح له التجاوب الجدي والمسؤول مع الرغبة الأممية في بحث الجديد وفي دفع الأطراف إلى مزيد من التقدم في الحوار والنقاش البناء. لقد ذهب المغرب إلى مفاوضات جنيف، عن اقتناع فعلي وعملي وجدي بدور الحل السياسي السلمي والتوافقي والواقعي والدائم والشامل والعادل الذي ينشده المنتظم الأممي الراعي للمفاوضات، وذهب الطرف الآخر المفاوض بيد فارغة وخطوات غير واثقة في أية عدالة ممكنة أو حوار صريح أو تفاوض جدي، وكل ما معه عبر عنه قديما في أن نتائج أي مفاوضات هي معروفة ومفروضة ومحسومة مسبقا: الانفصال ولا شيء غير الانفصال. ومن كان معه مثل هذا الاعتقاد القديم والمتجاوز في وضعية تفاوض جديد على أساس مقترحات جديدة، لا يمكنه أن يسهم بشيء يذكر في الدفع بالمفاوضات في اتجاه مستقبل آخر غير النفق الذي انحبست فيه أطروحة الانفصال. لذلك يمكننا أن نتفهم تخوفات المفاوض المغربي من أن تتحول المفاوضات بعد هذا الظهور البئيس والضعيف للقوة التفاوضية والحوارية وغير الديموقراطية أو الجدية لمفاوضي الطرف الآخر، إلى مجرد اجتماعات عقيمة ومضيعة للوقت، لغياب أي إعداد جيد لها على أساس إلزام الأطراف الأخرى بإظهار جدية حقيقية في بحث إمكانات جديدة، ومبادرات مقبولة لتجاوز انحباس أطروحتها الانفصالية والعدوانية في نفق مسدود.